قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, December 3, 2015

امرح مع فيروس سي

كلنا نمرح مع الفيروس سي بشكل أو بآخر، خاصة ولدينا أكبر نسبة لانتشاره في العالم كله. والحقيقة أن ضوء الشمس ظهر في الأفق مؤخرًا، والباب الموارب قد بدأ ينفتح، حتى أن المرء ليتذكر في حسرة كل مرضى الفشل الكبدي والقيء الدموي الذين أفلتوا من أنامله، لأنه لم يكن وقتها علاج فعال للفيروسين اللعينين بي وسي. اليوم نقف عند نهاية الممر، وعما قريب سوف ينتهي التهاب الكبد سي كخطر قاتل.  وسط هذا المناخ المتفائل كله تسمع خبرًا غريبًا، وتتلقى صفعة علمية...

الخبر الغريب نشر في عدة صحف ومواقع، عن مهندس معماري ابتكر جهازًا للقضاء على فيروسي بي وسي بالترددات الكهربية، وقال إنه أجرى تجارب عليه بالقصر العيني ومعهد تيودور بلهارس والنتائج 100%. سوف نحاول أن نتجاهل رائحة الكفتة التي يسيل لها اللعاب ونتابع الخبر. الفيروس واهن جدًا ولا يتحمل الأيونات التي تدخل جسم المريض عن طريق القدمين. يظهر المفعول بعد ساعتين من أول جلسة. الجهاز يكلف 2000 جنيه فقط لكن لابد من أن توافق الدولة على تجربته على بشر!

الله؟ هل هذا الكلام كله لم يُجرب على بشر؟.. أعرف مراحل التجارب الشاقة التي تتم على أي علاج جديد، وكيف تبدأ بالحيوانات ثم تتطور إلى أن تصل لأبحاث ما بعد التسويق، لكن ما مصدر هذه الأرقام المتفائلة إذن؟؟ فيروس سي عنيد جدًا في إصابة الحيوانات، باستثناء الرئيسيات مثل الشمبانزي، فمن أين جاءوا بأعداد الشمبانزي الوفيرة هذه؟

كأنما يسمع المهندس أفكارنا، يقول على الفور: "هذا الجهاز لا يشبه جهاز عبد العاطي. هذا ليس جهاز كفتة جديدًا". صارت سمعة جهاز الكفتة عالمية إذن.  لكنه – المهندس – يقول إنه تلقى عروضًا من أربع دول عربية وغربية للاستفادة من الجهاز مقابل ملايين الجنيهات. أي دول بالضبط؟... عبد العاطي كذلك قال إنهم عرضوا عليه ملياري دولار وخطفوه وأنقذته المخابرات الحربية.. هكذا قال. المهندس يقول إنه سيرفض ملايين الدولارات مقابل أن يعطي الجهاز لأولاد بلده بالمجان. هنا تشهد أستاذة تحاليل في القصر العيني أن نتائج الجهاز ثورية. هي جرّبته على 50 عينة فيروس سي وتبين أن البي سي آر PCR صار سلبيًا.. أي أن الفيروس مات. هذا يعني أنه لم يجرب بعد على حيوانات، وإنما على عينات مختبرية In vitro.

تلقيت الدرس من قبل أيام علاج الكفتة، وقيل إنني غراب بين يعشق الهدم، وطابور خامس وعدو مصر وربما ماسوني كذلك، وقيل إنني وأمثالي سنتوارى خجلاً في الشقوق كالصراصير عندما يتهافت العالم كله من أجل جهاز واحد. كأن طلب الدقة العلمية صار دليلاً على الخيانة وقلة الوطنية. سرني وقتها أنني أقف في ذات المكان الذي يقف  فيه عالم شجاع جرئ مثل عصام حجي، برغم أن أساتذة وأطباء لهم وزنهم قالوا إن علاج الكفتة ممتاز. لم أتشف عندما اتضح أنه فنكوش كبير.. فضلت الصمت. لكن رأس الذئب الطائر قد علمني أن أسمع هذه الأخبار فلا أتكلم. سأتكلم بتحفظ هذه المرة فلا أتهم ولا أؤيد. فقط اسمحوا لي ببعض الشك في مصدر الخبرة الفيزيائية الهائلة لدى مهندس مدني.. الفيزيائيون السوفييت جربوا هذا المبدأ كثيرًا – وهو مبدأ صحيح – لكنهم لم يصلوا لشيء فلماذا نجح هو؟ وكيف تحصل على هذه النتائج الحماسية من عينات دم فقط؟ وعلى خمسين عينة فقط وهو عدد لا يكفي لرسالة ماجستير ضعيفة؟. سوف أنتظر حتى أجد أخبار هذا الجهاز في الدوريات العلمية العالمية وفي مؤتمرات الكبد القادمة، وأرى براءة اختراعه. أخبار كهذه لا تذاع في الصحف السيارة ولا مواقع النت. سوف أنتظر ما يقوله علماء الكبد المصريون العظام الذين لن أذكر أسماءهم حتى لا يسقط منها اسم..

فلننتظر..

ننتقل الآن إلى الصفعة العلمية التي ما زلت أتحسس خدي المتورم بعدها. أذكر ذلك المؤتمر لأمراض الكبد وطب المناطق الحارة، عندما وقف أحد الأساتذة المشهورين ليعلن بكل ثقة أن عقار البرازيكوانتيل يسبّب السرطان. عقار برازيكوانتيل هو أربعة أقراص عبد السلام محمد الشهيرة، ويمكن القول إن هذا العقار الساحر وحملة (طول ما ندي ضهرنا للترعة) قد قضيا على مشكلة البلهارسيا في مصر أو كادا. لقد كانت حملة قوية وناجحة جدًا واستحقت كل مليم أنفق عليها. هنا انبرى د. محمد شرف الدين، الأستاذ الذي يدير الجلسة، يسأل الطبيب متشككًا: "يسبب السرطان؟ من قال هذا؟". قال الطبيب بسرعة: "فـ.. فـ..  في الإنترنت.. في كل مكان..".

قال د. محمد شرف وقد بدا غضبه واضحًا: "وأنا أرفض رفضًا باتًا أن يقال هذا الكلام الذي لا يستند لأي منطق علمي، في مؤتمر يحضره عشرات من شباب الأطباء الذين سيتعلمون أن عقار برازيكوانتيل الرائع عقار مسرطن، ولن يكتبوه لمرضاهم أبدًا!".

كان موقفًا حازمًا أوافقه عليه تمامًا. الأمور تغدو أكثر تعقيدًا مع الوقت، وصار هناك الطب المستند إلى دليل evidence based  medicine الذي يجعل ذكر أي معلومة من أي نوع  أمرًا عسيرًا يحتاج لتروٍ شديد. هل حمض البوليك يسبب النقرس؟  لا تقل إن هذه حقيقة ما لم تكن الأدلة لديك واضحة موثقة. انتهى عصر المصاطب والكلام المرسل و(معروف أن كذا وكذا...........).

"تبين أن البنسللين للأسف لا يعالج البلهارسيا.. أنتم واهمون!!"..  هذه تقريبًا هي القنبلة الإعلامية التي فجرها نقيب الصيادلة مؤخرًا. فالرجل صرح أن عقار السوفالدي تحدث معه انتكاسات كثيرة لو عولج به التهاب سي منفردًا!...يا سلام!.. هل هناك مخلوق على ظهر البسيطة قال إن السوفالدي يجب أن يعطى منفردًا؟. لماذا ترد على أسئلة لم يثرها أحد؟..  البنسللين لا يعالج البلهارسيا.. وهل هناك مخلوق في العالم زعم أنه يعالج البلهارسيا؟. قبل هذا فجر أحدهم قنبلة أن السوفالدي لا يعالج  التليف الكبدي، كأن من اخترعه زعم أنه يعالج التليف الكبدي!. نسوا بالمناسبة أن يقولوا إن السوفالدي يسبب السرطان.. أعتقد أن هذا موضوع الحملة القادمة.

السوفالدي عقار ناجح وفعال بشرط أن يعطيه طبيب متخصص يعرف ما يفعله، والمنتج المصري ذو كفاءة عالية ثابتة بأبحاث محترمة تُلقى في مؤتمرات عالمية، ونحن في صدد تصديره للعالم. هذه المرة تقدم مصر شيئًا علميًا ذا قيمة فعلاً، أو على الأقل تلحق بالركب، وهم مصرون على القضاء على السوفالدي بينما يحاربون من أجل اختراع الكفتة!. يريدون تدمير السوفالدي وتشويه سمعته، من أجل الشهرة او من أجل التظاهر بالعلم، أو من أجل فرقعة إعلامية تكون وبالاً على المرضى، أو لأن المنتج المصري لا يحقق أي هامش ربح للصيادلة. هل تذكرون هستيريا منع التطعيم بلقاح MMR التي مرت بها إنجلترا منذ عشرة أعوام، فتسبب الطبيب النصاب أندرو ويكفيلد في عودة ظهور وباء الحصبة والنكاف في بريطانيا من جديد وموت أطفال كثيرين؟ اليوم جاءت إشاعة MMR إلى مصر فلم تكد تنقضي حتى ولدت إشاعة السوفالدي الفاشل أو المضر، وفي كل يوم يسألني ستة مرضى عما إذا كان من الأفضل التوقف عن تعاطي السوفالدي؟ كيف يتحمل ضمير نقيب الصيادلة ذنب هؤلاء، وكيف سيقف جوارهم يوم القيامة؟؟؟ أن تشكك 20 مليون مصري في علاج يثق به العالم كله هي جريمة.  

نحن غارقون حتى الأذنين في مؤتمرات السوفسبوفير (السوفالدي) والكلام عنه، وبروتوكولات العلاج التي صار من المستحيل عليّ تذكرها. دعك من أن المنتج المصري ناجح فعلاً ولهذا تحرص الشركات الأجنبية على تشويه سمعته. هناك فيض قادم من الأدوية الجديدة التي تضم السوفالدي فيها، لكن نقيب الصيادلة ألقى قنبلته، ومن الواضح تمامًا أنه لم يتابع برتوكولات العلاج العالمية ولا يعرف كفاءة المنتج المصري، فكانت النتيجة أن الناس اقتنعت.. هو احنا يعني حنعرف أحسن من نقيب الصيادلة؟

هكذا تجد الناس تدافع بحرقة عن كلام فارغ مثل علاج الكفتة (لاذم الدولة تمول العباقرة بتوعها.. عازيما يا ماصر.. لا كرامة لنبي في وطنه)  وتهاجم علاجًا ناجحًا مثل السوفالدي المنتج في مصر (لك الله يا مصر.. الشركات بتدفع رشاوي لوزارة الصحة وعاملانا حقل تجارب).. وفي الحالين لا أحد يصغي للعلماء حقًا..

مصر تحولت لدار إفتاء كبرى.. بشرط أن من يفتون هم من لا يعرفون إلا القليل عن الموضوع أو ذوو المصالح، بينما العلماء الحقيقيون صوتهم خافت ولا يقنعون أحدًا.