أصاب دائمًا بحالة من الشك كلما قرأت عن تلميذ ابتدائي في قرية كذا تمكن من اكتشاف علاج السرطان أو طريقة جديدة للملاحة بين المجرات، ومن الواضح أن هذا الخبر شائع في صحفنا لأننا عباقرة. غير أنني دهشت منذ أسابيع عندما فوجئت بجوجل يغير صفحته الرئيسة إلى صورة لنجمة السينما الهوليوودية الجميلة هيدي لامار، بمناسبة مرور 101 عام على مولدها، ثم اكتشفت أنها عالمة رياضيات مهمة وأن الكل يعرف هذا باستثنائي !
سمعت عن هيدي لامار لأول مرة في طفولتي عندما قرأت لبيرم التونسي يصف انحلال الأجيال الجديدة، فيصف فتاة بأنها:
عشان تقلد هيدي لامار
تقعد بجنب بخيت عالبار
تشرب طزازين
أي أنها تشرب عدة دست من الويسكي. بعد هذا رأيت صور هيدي لامار في المجلات القديمة، وأعترف أنها كانت جميلة جدًا، تختلف عن تلك الصور الباهتة الثلجية الشمعية لممثلات هوليوود في الماضي. عرفت فيما بعد أنها ولدت في النمسا في 9 نوفمبر عام 1914 .. ظهرت في لقطات عارية أحدثت ضجة في فيلم اسمه (النشوة)، ثم هاجرت للولايات المتحدة حيث أعجب بها أحد مديري مترو جولدوين مترو فتعاقد معها لتقوم ببطولة عدد مهم من الأفلام بين الثلاثينيات والخمسينيات.
شاهدت لها فيلم شمشون ودليلة (1949) وتعال عش معي (1941) ... لكن لها قائمة طويلة من الأفلام لم أرها بصراحة او على الأقل لا أذكرها.
إلى هنا والكلام معتاد ولا جديد فيه، لكن الخبر العجيب هو أن هيدي لامار عالمة رياضيات مهمة منذ كانت في النمسا، وباختصار شديد كانت نظرياتها هي المسئولة عن البلوتوث والجي بي إس والهاتف الجوال وشبكات الواي فاي الذين تستعملهم أنت اليوم!!.. أيام الحرب العالمية الثانية ابتكرت نظام توجيه باللاسلكي للطوربيدات. وقد صممت مع المؤلف الموسيقي جورج أنتيل تكنولوجيا جديدة اسمها frequency-hopping أو القفز الترددي، وبها يمكنها – على قدر فهمي – أن تبدل ترددات اللاسلكي على فترات غير منتظمة بين البث والاستقبال. وبهذه الطريقة يمكن التحكم في الإشارات التي تصل للطوربيد، كما أنها تجعل التقاط العدو للإشارات مستحيلاً.
كما يمكن أن نفعل نحن لو قدمت لنا سما المصري اختراعًا فيزيائيًا جديدًا، لم تهتم البحرية الأمريكية بالاختراع وبدا لها غير جاد، غير أنه في العام 1962 بدأ استعمال التقنية على سفن البحرية، بالذات في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية.
في العام 1997 تلقت لامار حشدًا من الجوائز تقديرًا لدورها العظيم، وقد توفيت عام 2000 بعد حياة حافلة. لقد استطاعت هيدي لامار أن تزلزل قناعتنا بأن الرأس الجميل لا يحوي عقلاً جميلاً، أو ربما هو خاو تمامًا.
هذه قصة غريبة وما كنت لأصدقها لولا أنني قرأت رأي العلماء في الاختراع، ورأيت براءة الاختراع المسجلة باسم لامار..
ننتقل إلى فنان آخر هو الأديب العالمي روآلد دال .. بريطاني من أصل نرويجي – وهذا يفسر اسمه الغريب – والكل يعرف أنه رسام وأديب وسيناريست وطيار قديم!..
نعرف الكثير من عناوين هذا الساحر، ومنها قصصه للأطفال؛ ومنها ماتيلدا وتشارلي ومصنع الشوكولاتة وشخصيات الأقزام والساحرات ومستر فوكس الرائع.. إلخ .... معظم هذه القصص رسمه الفنان العالمي كوينتين بليك برسومه الساحرة المميزة جدًا.
وللكبار قدم دال (قصص غير متوقعة) و(عمي أوزالد) .. وقد نال حشدًا من الجوائز.
على الأرجح أنت تعرف كل ما سبق أن قلناه، لكن معظم الناس لا تعرف قصته كمخترع. في العام 1962 ابتكر هو والمهندس ويد وجراح المخ والأعصاب كينيث تيل صمامًا جراحيًا عرف باسم (ويد دال تيل) أو WDT.
بدأت القصة عندما أصيب ابن دال باستسقاء دماغية إثر حادث سيارة. وقد قام الجراحون بتركيب صمام (هولتر) لتصريف السائل الزائد الذي يضغط على المخ. لكن الصمام كان ينسد بلا توقف وفي كل مرة يستدعي الأمر جراحة.
كان دال يعرف المهندس الهيدروليكي ويد، وقد قام معه بصنع نماذج طائرات كثيرة وطيراها معًا، وكان يعرف أنه عبقري، وهكذا اقترح عليه تصميم صمام جديد لا ينسد، وقام بتنسيق عمله مع عمل جراح المخ والأعصاب تيل .. وقد وصف تيل الصمام في مجلة لانسيت بأنه قليل المقاومة سهل التعقيم ولا ينسد تقريبًا.
لكن الصمام لم يستعمل قط مع ابن روآلد دال لأن الفتى شفي من تلقاء نفسه، ولكن الاختراع أفاد آلاف الأطفال عبر العالم بعد ذلك. وبرغم هذا رفض المخترعون تقاضي أي مليم عنه.
هكذا نجد أن لامار ودال خرقا قاعدة التخصص .. ممثلة إغراء وعالمة رياضيات، وطيار ومهندس طبي وأديب!...
لكن على المرء أن يتعامل بحذر مع هذه القصص، فيمحصها بعناية ويتأكد من أن هذه الاكتشافات حقيقية ونشرت في دوريات عالمية فعلاً، وإلا دخلنا في فوضى تلميذ الإعدادي الذي اكتشف طريقة لتحويل النحاس لذهب، وفتاة الابتدائي التي وجدت علاج السرطان .. إلخ .. أو كما يقول أسامة غريب ساخرًا في إحدى تويتاته الساحرة:
قرأت خبرًا عن مهندس معماري استطاع عمل ابتكار يقضي على التهاب الكبد سي بالموجات الترددية. ألا تشم رائحة كفتة مألوفة؟ كما أن التعليقات الشوفينية من طراز (مصر تزهل العالم) – بالزاي وليس بالذال – و(عملوها المصريين) المعتادة انهالت على الفور. ويبدو أن المصريين مصرون على أن يلدغوا من نفس الجحر ألف مرة، لكني على كل حال لا أكذّب ولا أصدّق .. أريد رأي العلماء وأريد رؤية البحث منشورًا في مجلة علمية محترمة. كفانا تلك الاكتشافات المذهلة التي لا تستند على أي واقع سوى صداقة المحرر بصاحب الخبر.
لقد كانت قصتا دال ولامار استثنائيتين جدًا وفريدتين جدًا ومن الصعب أن تتكررا بهذه البساطة.