قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, December 25, 2015

الرقص على غاز البوتاجاز


في العام 1967 انبهر العالم بقصة فيلم (يوم طفت الأسماك ميتة) التي كتبها وأخرجها عبقري السينما اليونانية كاكويانس صاحب زوربا اليوناني . كان الاسم الذي عرف به الفيلم في مصر هو (الرقص على الهيدروجين) وكان الموضوع المفضل لأي مثقف وقتها.

 اضغط هنا لتسمع اللحن المميز للفيلم، والذي كتبه تيدوراكيس.


الفيلم يحكي عن كارثة يمكن بسهولة أن تحدث للعالم، في عصر الحرب الباردة وأزمة الصواريخ الكوبية في ذروتها. في كل صباح كان الناس يتوقعون أن اليوم هو اليوم. ربما لا يأتي الليل أبدًا وربما يفقد أحد الأطراف أعصابه، ويضغط زرًا ما من ثم تبيضّ الدنيا ولا تعود هناك حياة . إن الفيلم يذكرنا أولاً بحادث السهم المكسور الذي وقع عام 1966 عندما سقطت طائرة تحمل أسلحة ذرية قرب المدينة الإسبانية الصغيرة بالوماريس, وأحدثت ذعرًا شديدًا.. اقتضى الأمر وقتًا حتى عرف الأسبان أن القنابل لم تلوث بلادهم .. 

يُنقل لنا الخبر مع ضربات صاجات إيقاعية لراقصة فلامنجو إسبانية، ثم نرى على المسرح ثلاث راقصات يرددن: أنت لا تستطيع أن تتأكد متى سقطت القنابل ولا متى ستسقط المرة القادمة .. الشيء الوحيد المؤكد هو أنها لن تسقط في المرة القادمة في إسبانيا !
شاهد الافتتاحية هنا ..

ننتقل إلى  جزيرة كاروس اليونانية الصحراوية الفقيرة البائسة. فوق هذه الجزيرة البريئة تحلق طائرة أمريكية تحمل قنابل هيدروجينية، ثم يقع حادث ويثب الطيار الأمريكي ورجاله ومعهم صندوق أسود يحوي القنبلة الهيدروجينية التي تهبط بمظلة إلى الجزيرة. بالطبع كما هو متوقع تسقط القنبلة في اليد الخطأ .. راعي أغنام فقير خارج من عوالم قصص كازنتزاكس يجد الصندوق الغامض ويحمله إلى بيته مع زوجته. إن صندوقًا يهوي من طائرة أمريكية لابد أنه مليء بالكنوز.

طنطا .... ديسمبر 2015 ....
ينظر العامل سيد حبارة حوله .. لا أحد يراقب المدخل. يتسلل حاملاً البراميل الخمسة من معمل تكرير البترول في طنطا شاعرًا بأنه قد قنص كنزًا ثمينًا. سوف يفرغ هذه البراميل ويبيعها .. لن يقل ثمن البرميل عن خمسين جنيهًا .. الأمر يستحق ..


يحاول جاهدًا فتح البرميل الأول.. في النهاية ينجح بصعوبة في انتزاع الغطاء، وهنا يفاجأ برائحة غاز كريهة لعينة تتصاعد من البرميل... الحقيقة التي لم أكن أعرفها هي أن غاز البوتاجاز لا رائحة له، لهذا يمزجونه بمادة نفاذة الرائحة كي يتمكن الناس من شمها عند حدوث تسرب، وقد كانت البراميل تحوي هذه المادة مركّزة ... يصيبه الذعر من ثم يتخلص من البراميل كلها في الترعة قرب محلة مرحوم.

في نفس الوقت في فيلم كاكويانس يحدث شيء مماثل...
ينجح الراعي الذي امتلأ رأسه بالأحلام في فتح الصندوق .. فماذا وجد؟.. كبسولات لا قيمة لها (هي أجزاء القنبلة).. هكذا يشعر بخيبة الأمل ويحمل الصندوق على حماره ويلقي به في البحر المتوسط ...
هكذا تموت الأسماك ويبدأ التلوث ..

في طنطا في تلك الليلة السوداء من ديسمبر 2015:
يفاجأ سكان طنطا بأنهم في حرب غاز لا يعرفون مصدرها ولا سببها .. الغاز كثيف في الجو والرائحة لا تطاق .. ماذا يحدث؟  هل حدثت كارثة في أنابيب الغاز الطبيعي؟
وفي موقع نادي طنطا على فيس بوك يتساءل الناس في ذعر:


تنهال الاتصالات المذعورة على مركز شكاوى الغاز .. الخط مشغول للأبد، وفي النهاية يرد عليك موظف ليطمئنك أن هذا ليس غازًا طبيعيًا بل هو – ولله الحمد – غاز بوتاجاز.  لا تعرف الفارق ولا يعنيك. هل طنطا مهددة بالانفجار؟

في نفس الوقت في فيلم كاكويانس نرى الموت وهو ينتقل عبر أكواب الماء والمشروبات الملونة .. أسوأ وقت لحدوث تلوث إشعاعي على جزيرة هو عندما تكون مزدحمة بالسياح ..

فقط يدرك الأمريكيون معنى هذا .. هناك حمار ما قد فتح الصندوق.. نرى مشهد الأسماك الطافية فوق الماء، ويدوي صوت ينذر الراقصين:
ـ"انتبهوا من فضلكم !... انتبهوا !"

لكن الرقص يستمر .. غير عالمين أنهم يرقصون فعلاً على الهيدروجين ..

في طنطا في تلك الليلة السوداء من ديسمبر 2015 .. يدلهمّ الأمر تمامًا .. لا أحد يستطيع التنفس والناس تغادر بيوتها مذعورة:


طنطا كلها ترقص على غاز البوتاجاز ... انتبهوا من فضلكم !... انتبهوا !
ثم يأتي الحل وتتضح الحقائق:


يأتي نفس التأكيد من نبيل عبد الفتاح مدير أمن الغربية، أن سبب تسريب رائحة الغاز التي انتشرت في شوارع مدينة طنطا هو أحد العاملين بشركة مصر لتكرير البترول، والذى سرق 5 براميل فارغة.

في هذه المرة تصرفتْ الشرطة بكفاءة وسرعة لا شك فيهما، والخلل هذه المرة يأتي من المواطن سيد حبارة وليس من حكومته.   نموذج القماشة التالفة وليس الترزي الفاشل كما قال الراحل جلال عامر. سيد حبارة الذي يسرق الكابلات ولافتات السرعة وجزرة تهدئة سرعة القطار وحاويات القمامة المعدنية، ويفرغ الأكياس التي يجدها أمام البيوت ليجمع الزجاجات البلاستيكية، ويبيع العلاج الذي يحصل عليه من التأمين الصحي. 

هنا تبرز مشكلة .. نحن نتحدث عن سرقة براميل رخيصة أدت لهذه الكارثة البيئية، فهل نحن فعلاً قادرون على تأمين مفاعل نووي يشرف عليه سيد حبارة ويحرسه بسطويسي؟ وماذا عن سرقة اليورانيوم والبلوتنيوم؟... وماذا عن دفاتر العهدة؟.. وماذا عن استخدام الفحم في إشعال الجوزة لأن سحبته حلوة كما قال أحد معلقي الإنترنت ساخرًا؟

المفاعل خطوة خطرة بالتأكيد ولسنا متأهبين لها بتاتًا، وعلينا أن نجرب المصادر الشمسية والريح. برغم أن ما سيكون سيكون ولن يصغي أحد لكلام مفكر كبير عمل محررًا علميًا لعدة عقود مثل د. محمد المخزنجي، وهو قد وجه الإنذار عدة مرات في أكثر من مقال .. هنا مثلاً وهنا.

ليلة الغاز بروفة لما يمكن أن يحدث في المفاعل، ولكن في المرة القادمة لن تكون مجرد رائحة كريهة .. ستكون سحابة مشعة، وتتحقق نبوءة كاكويانس بعد نحو خمسين عامًا، حسب فيه العالم ان الكابوس قد زال.