منذ أيام وصلني هذا الخطاب من صديق يمني مثقف أرتاح له كثيرًا، وقد آلمني الخطاب كثيرًا بالطبع:
"قرأت مقالتك عن حلب .. وصدقني .. الحال لا يختلف عنه كثيرًا هنا، فنحن بين مطرقة الحوثيين و سندان المتطرفين (قاعدة، داعش و أنصار الشريعة) طبعا هذا غير الغارات الخليجية التي تدك البيوت يوميًا. تخيل أن البيت المجاور لنا يسكن فيه المتطرفون والمشكلة أنهم يشكون بأنني حوثي رافضي شيعي ..... إلخ و جيراني الحوثيون والذين يجب أن أمر في طريقهم إذا أردنا الخروج لشراء المواد الغذائية يعتقدون أنني داعشي لأنني أعيش في منطقتهم. تعرضت لأكثر من محاولة قتل نجوت منها بأعجوبة أيضًا. الماء مقطوع من 9 أشهر ونحن نعتمد على مياه الأمطار. الكهرباء مقطوعة ونحن نعتمد على ألواح الطاقة الشمسية التي حلت هذه المشكلة والحمد لله. أهلي في رعب شديد نتيجة الرصاص والقنابل والقذائف التي تلقى جوار نوافذ البيت التي تحطم الكثير منها والمشكلة أننا علقنا في داخل المنطقة ولا نعرف كيف نخرج منها الآن. صار أن نتحدث عما يجري للآخرين نوعًا من الترف. نرجو منكم الدعاء لنا.
ملحوظة: إذا أردت استخدام أي جزء من أجزاء رسالتي فلا تذكر اسمي فسوف يعرضني هذا للخطر".
كما هي العادة مع خطابات سوريا: "لا تذكر اسمي". تقريبًا نفس الكلمات. لكن هذه الخطابات كنز ثمين لي لأنها تخبرني بالضبط بالحقيقة، وتأتي من قلب الجحيم صادقة خالية من التحيزات السياسية او الرغبة في خداعي، فلا تكتفي باتهام الحوثيين أو داعش. الصراع السني الشيعي الذي لا تنوي بلادنا الخروج منه يجعل الوصول للحقيقة مستحيلاً، بين طرف يتهم الروافض بكل شيء، وطرف يتهم النواصب بكل شيء، وهذا يجعل خطابات كهذه لا تقدر بمال.
ننتقل الآن إلى صور لا تختلف بتاتًا عن الصور التي يروجها السوفييت لحصار ستالينجراد أو يروجها اليهود لوصف الهولوكوست ومعتقل أوشفيتز الرهيب. نفس الوجوه الذابلة والعيون الغائصة المحتضرة والهياكل العظمية المغطاة بطبقة من الجلد. فقط يصعب أن تصدق ان هذا يحدث في القرن الواحد والعشرين. الواقع أن الإنسان يزداد توحشًا وشراسة مع مرور الزمن.
مضايـا .. الاسم الذي احتل وسائل الإعلام كلها حاليًا. صار له رنين الحولة والغوطة ومذابح أخرى عديدة..
سوف أتلقى بالتأكيد خطابات سورية تقول لي إن مصادري خطأ، وإن هذه كلها دعاية سياسية قامت بها أجهزة مخابرات خليجية، وكما قال هيكل قديمًا إن تقرير الدالي وجد أن هناك مشاهد كثيرة للمعاناة السورية تم تصويرها في ستوديوهات في لندن . بالتأكيد سوف ينكر كثيرون هذه الصور، خاصة أننا في عصر يخدعنا فيه الإعلام بلا رحمة ولا توجد أرضية تقف عليها على الإطلاق، لكني كما قلت أعتمد على خطابات أصدقائي من قلب الحدث ولا أثق بوسائل الإعلام.
مضايا بلدة سورية قيل إن معنى اسمها (ماء ضائع).. وعدد سكانها نحو أربعين ألفًا. تتبع محافظة ريف دمشق وتقع شرق مدينة الزبداني وتبعد عن العاصمة حوالي 40 كيلومترًا.
ما يحدث هو أن المقاومة السورية سيطرت على تلك البلدة ... ثم جاءت قوات بشار الأسد وحزب الله تحاصر المكان لمدة طالت سبعة أشهر، وهناك نطاق كامل من الألغام المضادة للأفراد (16 ألف لغم) حول البلدة. وهذا خرق لمعاهدة تم توقيعها في 24 سبتمبر 2015 تسمح بمرور المؤن للمدنيين. النتيجة هي أن معاناة السكان بلغت درجة لا توصف، وقد اضطروا لأكل القطط والكلاب كما أن كثيرين منهم يأكلون الأعشاب، وقد صار هذا صعبًا على كل حال مع الثلج الذي قتل العشب. وقد صار الملح وجبة رئيسة لأنه يمتص الماء فيملأ المعدة لبعض الوقت. تدهورت قوى الناس وصاروا أميل للنوم والكسل، وقيل إن رجلاً وزنه 45 كيلوجرامًا قد مات جوعًا فتعاون ثمانية على حمله بسبب وهن قواهم. المشكلة كذلك أن هذه منطقة جبلية تعاني أشد المصاعب مع الصقيع في هذه الفترة من العام. أي أن الحاجة للسعرات الغذائية مضاعفة.
شاهد قصة مضايا في هذا الكليب.. اضغط هنا
وقع السوريون البائسون بين مطرقة نظام بشار وحزب الله والطيران السوري، وبين سندان داعش وجبهة النصرة. وكلا الطرفين غير قادر على الحسم. ويقال إن حصار البلدة ليس بسبب وجود معارضة مسلحة بها، بل للضغط على جيش الفتح في الفوعة وكفريا. تتكرر قصة الشدة المستنصرية هناك، حيث بلغ ثمن كيلو الأرز 100 دولار.. كيلو السكر 175 دولارًا.. علبة الحليب 300 دولار..علبة السجائر بعشرة دولارات.
والسؤال هو : لماذا يدخن من هم في حال كهذه؟ لأن التدخين يقلل من آلم الجوع كما اكتشف هؤلاء. هكذا وصل عدد الموتى إلى ثلاثين منهم عشرة أطفال.
يقال كذلك إن حزب الله يضغط على الأهالي ليبيعوا بيوتهم وأراضيهم مقابل الحصول على الطعام (الأرض مقابل الطعام). "ونقل عن سكان في مضايا أن مقاتلي حزب الله وضعوا تسعيرة للمبادلة على حواجزهم التي تطبق على مضايا، بحيث تتم مبادلة بندقية مقابل عشرة كيلوجرامات من الطعام، ودراجة نارية مقابل عشرة كيلوجرامات أخرى، وسيارة مقابل 15 كيلوجرامًا".
شاهد هذا الفيلم عن معاناة سكان مضايا.. اضغط هنا
كالعادة نهض الأخ بان كي مون من نومه فتناول إفطارًا دسمًا ثم ذهب لمكتبه ليشعر بالقلق، ثم أعلنت الأمم المتحدة إن النظام السوري رفض إدخال المساعدات لمضايا. قالت الأمم المتحدة كذلك إن المساعدات لا تصل إلى البلدات الشمالية مثل فوعة وكفريا التي تحاصرها المعارضة المسلحة!.. هل ترى؟ المعارضة المسلحة تحاصر كذلك وتزيد معاناة المواطن السوري العادي. ببساطة لأن الكل يريد السلطة.
وأوضح مصدرٌ مطلّع على الشأن الميداني في المنطقة لـ CNN بالعربية، أنّ: "رفض (جيش الفتح) و(أحرار الشام) وفصائل مسلحةّ إسلامية أخرى فتح ممر للمساعدات الإنسانية بموجب هذه التسوية لقريتي (كفريا والفوعة) اللتين تحاصرناهما؛ أدى بالمقابل إلى عدم سماح القوات المحاصرة لـ(مضايا) بمرور المساعداتٍ إليها أيضاً"
لا شك أنها قصة قاسية، وتذكرك بحقائق مؤلمة عديدة. تذكرك بالصورة الأيقونية القديمة لحزب الله وهو يلعب دور المقاومة الفاعلة الوحيدة، وهو يلقن إسرائيل درسًا بعد درس.. فماذا حل به ليتحول لمخلب طاغية مجنون؟ أم أن هناك دعاية مضادة شرسة تسعى لشيطنته، طبقًا للتفسير السني الشيعي لتاريخ المنطقة؟
هل كان من الأفضل لو انتظرت الثورات العربية بضعة أعوام إلى أن تنضج شعوب المنطقة لفكرة الثورة وتبعاتها؟ هل داعش هي إفراز طبيعي للثورة المضادة وإحباط الحركات السياسية على طريقة الجزائر؟ ما أعرفه هو أن مسلمات كثيرة جدًا تنهار يومًا بعد يوم، وأن أطفالاُ كثيرين سيموتون قبل أن نعرف الحقيقة.