قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, January 3, 2016

«الجزيرة» التي لم تعد كذلك


تمر مصر بظروف عصيبة غاية في السوء، وأنا أكرر هذا في كل مقال، لكن قناة الجزيرة – وأكره أن أقولها – تمر بألعن فترة مرت بها منذ إنشائها.  

https://www.facebook.com/aljazeerachannel/

أنا من المتعصبين لقناة الجزيرة، أو كنت كذلك، باعتبارها كانت ثورة إعلامية حقيقية قضت على الإعلام الحكومي الرسمي، مقتدية منذ بدايتها بمدرسة قناة "بي بي سي" البريطانية، ومزودة بشبكة مراسلين من أرقى ما يمكن. وفي أكثر من مرة كتبت جملة: "عظيمة هي قناة الجزيرة".. "لولاها لقال إعلامنا أن ما يحدث في فلسطين (قلاقل) بينما تنقل لنا هي كل شيء".. وفي مقال آخر قلت: "اليوم هو السبت 27 ديسمبر، وقناة الجزيرة لا تتوقف عن بث الصور المحطمة للأعصاب من قطاع غزة. قاسية هي قناة الجزيرة.. رائعة هي قناة الجزيرة، ضرورية هي قناة الجزيرة.. إلخ، تشم البارود والدخان والدم الطازج المسفوح".

كانت شخصية القناة قوية لدرجة أن تعبيرات مراسليها على غرار (الوضع مرشح للتصاعد) أو (العودة للمربع الأول) أو (استحقاقات المرحلة) تسربت لكل وسائل الإعلام العربية. مع حرصها على وجود ضيفين دائمًا أحدهما (مع) والآخر (ضد)، بينما كل قنواتنا لا يوجد فيها إلا مذيع (مع) يحاور ضيفًا (مع) ويتلقى مداخلات من مواطن (مع).

ظلت حماستي ملتهبة لقناة الجزيرة، وظل التلفزيون مفتوحًا عليها، لدرجة أن طفليّ كانا يتمنيان أن أشتري جهاز تلفزيون آخر من النوع الجميل الذي يريانه عند أقاربهما، ويعرض الفيديو كليب والرسوم المتحركة والأفلام. كان هذا قبل أن أضع جهاز التليفزيون الصغير الخاص بي في مكتبي، ونسيت أين يوجد "ريموت" تقليب القنوات؛ لأنني لم أعد أشاهد سوى قناتين: الجزيرة أو بي بي سي.

كنت أرى أن الجزيرة تلعب دور آلة التصوير التي تظهرك دائمًا قبيحًا.. أنت تكره آلة التصوير المنفرة هذه جدًا، وتشك في أنها آلة عميلة تتلقى تمويلاً من الخارج، لكن لماذا لا تفترض للحظة أنك قبيح فعلاً؟ في وقت ما صار أي كلام صادق عن العالم العربي معناه أن تشتمه. أذكر مظاهرات ليبيا التي نظمها القذافي :"يا جزيرة يا حقيرة".. وفيما بعد صارت (الخنزيرة) لدى أغلب الحكومات العربية.

عندما قامت ثورة يناير كانت الجزيرة عنصرًا أساسيًا فيها، وبينما كان التلفزيون المصري – إعلام أنس الفقي المجيد – يعرض ركنًا هادئًا تزينه الورود على النيل، فقد كانت هي تعرض الدم وتصادم الإرادات المخيف. وكان الناس متحمسين لها فعلاً. في أيام الثورة الأولى كتبت ملحوظة في مقال، قلت فيها إن الجزيرة رائعة لكنها لم تكن محايدة تمامًا لأنها لا تعرض الرأي الآخر (رأي رجال مبارك)، وأيامها انفجر الغاضبون فيّ لأنهم لا يقبلون أن أهاجم الجزيرة في أي شيء، ولم يقبل أحد هذه النغمة الحيادية. أذكر كلمات نوارة نجم الدامعة تتردد بلا توقف بين برامج الجزيرة: "ما فيش خوف تاني"، وكيف قالت لمحرر الجزيرة: لولا هذه القناة العظيمة لفتك بنا رجال مبارك دون أن يشعر بنا أحد.

هكذا ذهلت من كم الفاشية والتعصب الأعمى اللذين ظهرا خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الجيش عام 2013 لشرح مجزرة الحرس الجمهوري، كاد المؤتمر يبدأ عندما ظهر شخصان عصبيان جدًا لدرجة السعار، وراحا يصرخان بشكل جنوني حتى كادا يصابان بالبواسير:
ـ"الجزيرة بره.. الجزيرة بره".

فشلت محاولات التهدئة، وبعد قليل دبت العدوى السادية في القاعة فصفق بعض الجالسين.. وبالفعل تم طرد مراسلي الجزيرة من القاعة بدلاً من طردهما هما. هذان ببساطة يريان من الطبيعي حرمان القناة من حق الحصول على الأخبار.

كتبت وقتها عن هذا الموقف الفاشي العجيب، وعن عملية شيطنة قطر لدرجة تحويلها إلى إسرائيل العربية.  بل إن إسرائيل بلد شقيق يختلف عن قطر تمامًا!

لكن مع الوقت بدأت الجزيرة تخذلني فعلاً وتبرهن على أنني مخطئ... ما زلت أرى أن الجزيرة تغيرت.. إدارتها تغيرت وسياستها تغيرت. بالفعل هناك درجة كبيرة من التشفي غير المهني وكأن القناة تعتبر نفسها عدوًا شخصيًا لمصر، وهناك درجة مهولة من الحقد كأنما الفرصة قد واتتها لتصفية حساباتها معنا أخيرًا، وفي لحظات كثيرة صارت طرفًا فاعلاً في الأحداث ولا تكتفي بالتعليق. لم تعد الجزيرة ذلك المعلق الأمين على الأحداث بل صارت تحاول صنعها، وتعلمتْ من (فوكس نيوز) و(سي إن إن) تضخيم الأحداث التافهة وتجاهل الأحداث المهمة (هل تذكر بطة سي إن إن الملوثة بالنفط؟).

كل خبر سيء عن مصر تقابله الجزيرة بحالة من النشوة والبشر. رأيت أكثر من مذيع يضغط على الضيف ضغطًا ليقول إن مصر ذاهبة للجحيم، ويتضايق جدًا لو تكلم الضيف بحيادية أو أبدى بعض الأمل. روسيا لغت الرحلات لمصر هع هع هع.. السياح الروس بقوا بيروحوا تركيا.. هع هع... انفجار في شارع كذا.. هع هع... عملية في سيناء تقتل 12 جنديًا.. هع هع!!.. سيناء كلها تحت سيطرة داعش.. هع هع.. القناة الجديدة فشلت.. هع هع.. سد النهضة اتبنى ولا حل لمصر سوى العطش والمجاعة.. هع هع...

منذ يومين رأيت مذيع الجزيرة يقول للضيف في لهفة وخيبة أمل: "كل هذا الانهيار الاقتصادي الذي تتكلمون عنه، وما زالت مصر متماسكة والناس تعيش حياة عادية.. ماذا حدث بالضبط؟ ما سرهذا؟". لم يكن السؤال حياديًا بل بنغمة (هيا مش حتخرب بأه عشان ننبسط؟).  ينتظرون في شغف مشاهد الميليشيات المسلحة من ذوي الشباشب والكلاشنكوف، تجوب شوارع مصر: "بعون الله نجحنا اليوم في استرداد بولاق وغدًا نزحف على روكسي.. النصر قادم".

في كل تغطياتها اليوم تتخذ الجزيرة جانبًا واحدًا. بصرف النظر عن رأيي فيما يحدث في سوريا فهي سعيدة جدًا وطرف فاعل في كل ما يدور هناك،  وطيلة الوقت لا تنقل إلا انتصارات المعارضة، والمذابح التي تسبب فيها الطيران الروسي، وقتلى حزب الله (ولا تذكر أبدًا قتلى المعارضة)، بينما لا تنقل أبدًا وجهة النظر الأخرى. في اليمن قررت منذ اللحظة الأولى أن الحوثيين قد تم قهرهم.. ومنذ عام تنقل أخبار سحق الحوثيين فتتساءل أنت: ينسحقون منذ عام يوميًا؟  ما حجم قوتهم الأصلية إذن؟ والمشكلة أن الثوار يستردون المدن من الحوثيين طيلة اليوم. معنى هذا أن هذه المدن أخذت من قبل!

ثمة شاهد من الداخل هو العزيز محمد هشام عبية، الذي حكى في مقال له عن تجربته بعد ثورة يناير كمنتج هواء في قناة الجزيرة مباشر. يقول إن الراتب كان جيدًا وبالدولار في وقت كانت فيه الصحف تدفع الرواتب بالتقسيط.. لاحظ أن معظم ضيوف القناة من الإخوان، وهو أمر رحب به باعتبارهم يستحقون بعض الظهور الإعلامي بعد سِني الإقصاء، ثم لاحظ أن الحلقات غالبا حوار بين إخواني وبين سلفي (باعتبار هذا هو الرأي والرأي الآخر) أو صيغة (ليبرالي وديع ضد إخوانجي لبق شرس) تنتهي بانسحاق الليبرالي في صراع الديكة هذا. وعندما قامت الثورة في سوريا ضد الأسد، صدرت تعليمات بعدم عرض المظاهرات التي يقوم بها السوريون في مصر ضد بشار في ميدان التحريريسأل لماذا فيقال له (الدوحة!). أي أن الجزيرة بدأت ضد ثورة سوريا ثم صارت تعضدها لحمًا ودمًا.

الحقيقة أن قناة الجزيرة تجد مادة خصبة في مصر اليوم، ولو انصلح حال مصر لاضطرت الجزيرة إلى إغلاق السيرك الذي تقدمه يوميًا، ثم أن مصر أكبر بكثير من أن تتعامل معاملة الند مع قناة فضائية.. لدرجة أن يلقي وزير الخارجية بميكروفون الجزيرة في عصبية خلال مؤتمر صحفي، وهذا لم يدلل على وطنيته قدر ما دلل على وهن منطقه. لو كان أكثر حكمة لرد على الجزيرة في برود متحفظ.

كانت الجزيرة مشروعًا إعلاميًا يصلح لتدريسه، لكنها مع الوقت تحولت للاعب سياسي غير نزيه. ولا تقل من فضلك: "ما قلنا كده من زمان"، لأنها لم تكن كذلك منذ البداية عندما كانوا يتهمونها بالعمالة لأنها تكشف الحقائق. الفاكهة تولد ناضجة شهية ثم تفسد.  

لو أن الإعلام المصري كان صادقًا أو عاقلاً أو – على الأقل – إعلامًا لاستطاع أن يصمد أمام الجزيرة، لكنه للأسف إعلام ضعيف، كذوب، غير احترافي، وفي كل مرة يتصادم فيها مع الجزيرة، تسدد له الأخيرة ضربات قوية ساحقة تفضح كذبه. إن أحمد موسى وعكاشة ولميس لن يصمدوا أبدًا أمام كريشان والقاسم وخديجة بن قنة.