في ذكرى ثورة يناير |
حكى لي صديقي عن مشهد رآه في قناة تلفزيونية، هو مسابقة في شارع إسباني من تلك المسابقات التي يركض فيها ثور هائج وسط الجماهير. ناشطة حقوق حيوان أشفقت على الثور التعس وركضت لتمنع الناس من تعذيبه. توقف الثور ونظر لها للحظة، ثم انقض ليغرس قرنه في بطنها... هل يبدو هذا الموقف مألوفًا؟
يحكي لي صديق ممن شاركوا في ثورة يناير 2011، وباتوا معظم لياليهم في التحرير. يحكي أنه كان متجهًا إلى الميدان في 30 يناير تقريبًا وهو يحمل علمًا ولافتة مطوية، واستقل (ميكروباص). هنا نظر له الناس في اشمئزاز وانطلقوا في الشتائم باعتباره من الشباب الرقيع المائع الذي يريد أن يخرب البلد. تلقى يومها قدرًا هائلاً من السباب والإهانات أصابه باكتئاب.
بعد هذا بأيام بدا واضحًا أن الثورة انتصرت وأن قوتها كاسحة لا يمكن احتواؤها، وهنا انطلق الناس إلى الميدان ملتفين بالعلم أو الكفن ليلتقطوا لأنفسهم صورًا تذكارية هناك .. لقد صارت الثورة عملاً مأمونًا بعد ما قام الشباب بالجزء الصعب من العملية.
أذكر في ذلك الوقت الفنانة التي كانت موشكة على البكاء لأن أطفال أسرتها يريدون البتزا والريش المشوية لكنها لا تستطيع النزول لشرائها، و أذكر تامر (غمرة) الذي كان يتكلم بطريقة تمثيلية مفتعلة عن الثوار العملاء الذين ياكلون الكنتاكي ويتكلمون (إنجليش) وراح يبكي. وأذكر الصحفية التي راحت تؤكد أنه تم تدريبها في الصرب لتخريب مصر. أذكر البلطجية الذين يركبون الجمال والخيول وهم يضربون الرءوس في يوم موقعة الجمل.
أذكر هذا وأذكر بكاءنا مع دموع وائل غنيم الذي لم يستطع استكمال برنامج منى الشاذلي. وأذكر صورة الثوار – ومنهم وائل غنيم وأسماء – مع رجال المجلس العسكري، وضحكة أمل على الوجوه جميعًا.
ضحكنا وبكينا كثيرًا.. ضحكنا مع المنافقين الذين يأتمرون بأوامر أمن الدولة، والتلفزيون المصري الذي يعرض حوض أزهار على النيل على أن هذه هي الصورة حاليًا. وبكينا مع شهداء الثورة والصور المريعة التي رأيناها على يوتيوب بعد عودة الإنترنت.
من الطبيعي أن يعود عصر مبارك بكل شراسة لينكل بالثورة، وكل العيال الذين كادوا يحرمون هؤلاء السادة من مكاسبهم ونفوذهم. لو كنت أنا لواء أمن دولة وقتها، أو عضو برلمان من الحزب الوطني أنفق الملايين من أجل الكرسي الذي سيجلب ملايين أكثر، لما طقت سماع كلمة ثورة ولتمنيت – كما فعلت دكتورة لميس جابر – أن يختفي يناير من التقويم، ولأطلقت عليها 25 خساير فعلاً.
بالمناسبة لا أقبل حرفًا مما تقوله الدكتورة لميس، لكني قلت مرارًا إنني أحترم ثباتها جدًا. حتى أثناء إعصار الثورة الكاسح ، عندما حنى الجميع رءوسهم ومجدوها، ظلت هي تؤكد أنها مؤامرة وما زالت. الآخرون انتظروا حتى انهزمت الثورة ثم خرجوا ليعلنوا أنها كانت مؤامرة قذرة على مصر.. إلخ. ومن الغريب أن من استفادوا من الثورة فعلاً هم ألد أعدائها والمتسللون الذين تظاهروا بحبها في أوج قوتها، ثم اغتالوها بعد ذلك. لقد نالوا المنعة والثروة والنفوذ بفضل دماء من ماتوا في الميدان. بالمناسبة كذلك أتمنى لو إنني ترجمت مذكرات هيلاري كلينتون هذه التي تقول كل هذا.. اليوم لو طلب الرجل من زوجته طبخ قلقاس، فسوف تؤكد أن القلقاس ممنوع حسب مذكرات هيلاري كلنتون. هذه هي الموضة حاليًا بعد الويكيليكس.
الموقف الرسمي يتظاهر بأنه يحترم ثورة يناير، لكنهم في الحقيقة لا يطيقون سماع اسمها، ومن الوارد فعلا أن تصدر كتب التاريخ فيما بعد قائلة: "حاول العملاء والجواسيس أن يدمروا مصر في يناير 2011 لكن الجيش سحقهم وأعاد للبلاد مجدها وعظمتها. وقد مات 1070 خائنًا كما قامت الشرطة البطلة بفقء عيون عدد من المتآمرين".
نعم. قد تم سحق الثورة وسحق كل من يمثلها، وقد نقبل هذه الحقيقة. لكن من العجيب أن تصير قصة الصحفية الكذوب هي القصة الرسمية، وأن يتعاطف الناس مع الفنانة بعد ما سخروا منها.
لماذا يكذب المواطن العادي أذنيه وذاكرته ويصدق كذب الإعلام؟.. لماذا بعد ما سخر من تامر غمرة، ومن كلام الشيخة ماجدة التي رأت الإيرانيين يندفعون من النيل ليشاركوا في الثورة. لماذا بعد هذا كله صار يصدق؟ لماذا يخترق محرريه بقرني الثور؟
أتذكر كلماتي الساذجة عندما بدأت محاكمة مبارك: "هؤلاء دمروا مصر فإن استطاعوا الإفلات بألعاب حواة، فإن الشارع سيصاب بخيبة أمل مرعبة وخطرة". كنت صادقًا ولم أكتب سوى ما يمليه ضميري، لكني كذلك كنت ساذجًا بدرجة مخيفة. كان علي أن أتلقى الدرس بالطريقة الصعبة.
ما حدث هو أنهم أفلتوا فعلاً. وفيما بعد كتبت: "كانت هناك فرصة ممتازة لتغيير كل شيء، وقد تناغم تردد الثورة في ملايين القلوب في لحظة واحدة نادرة، لكننا أضعناها بسلسلة من الأخطاء بدأت منذ لحظة التنحي عندما عاد الجميع لبيوتهم، وعندما لم يطالبوا بمحاكمات ثورية، ثم الصراعات الداخلية والانقسامات، واستهلاك طاقة الثورة في اعتصامات ومليونيات لا حصر لها ولا هدف، حتى كره الناس فكرة الثورة. متى تتكرر ثورة كهذه مرة أخرى؟ ألجأ هنا لعبارة كتبها في الفيس بوك صديقي الطيب والفنان التشكيلي رائف وصفي: «حماقة واحدة تقع فيها كل الفصائل السياسية على اختلاف أنواعها وانتماءاتها منذ ليلة ١١ فبراير ٢٠١١ وحتى اللحظة، إذ يتصور الجميع أن للثورة (مقادير) - يعني حاجة كده زي قالب الكيك - ما أن يضعوها على بعضها البعض حتى تندلع ناسين أو متناسين بلهاء أو مستهبلين أنه لابد لقالب الكيك من (فرن) حتى ينضج... فرن تكفلت سنوات مبارك الثلاثون بإعداده وقد (خبز) قالب كيك واحدًا ثم انطفأ، ولن يقدر أي فصيل على إشعاله مرة أخرى..»". هذا نفس رأيي تقريبًا، وهو يفسر لماذا يمر كل 25 يناير على خير برغم الحشد من جهة الحكومة والمعارضة معًا. لابد من فترة للنضج في الفرن من جديد، وحتى تلتئم طعنة قرني الثور.