قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, January 18, 2017

باتا باتا!



في طفولتي – بعد مصرع جيفارا – كانت هناك ثلاثة وجوه ترمز للثورة في العالم. الوجه الأول هو وجه نلسون مانديلا ضحية التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا.. الوجه الثاني وجه أنجيلا ديفيز المناضلة اللاتينية.. الوجه الثالث هو وجه ميريام ماكيبا.. ماما أفريقيا. في ذلك الزمن  كان مناضلو العالم كلهم تحت لواء واحد وخلاط واحد وضعت فيه قضايا فلسطين وفيتنام وجنوب أقريقيا وجيش التحرير الأيرلندي، وكان من الشائع أن تحدث عملية فدائية في فلسطين يشارك فيها أعضاء من بادر ماينوف الألمانية وجيش التحرير الأيرلندي أو يخطط لها كارلوس.

كانت هذه المرأة القوية ترمز لأفريقيا كلها، وقد استطاعت أن تجعل العالم كله يعرف جنوب أفريقيا جيدًا، ويعرف ثقافة قبائل الزولو والخوسا..

لو أنك سعيد الحظ، فلربما شاهدت على قناة ماسبيرو زمان لقاء الإعلامية سلوى حجازي معها عندما زارتها في الجزائر، وهو لقاء حذفه اليوتيوب لسبب لم أفهمه.

كانت ماكيبا حاصلة على الجنسية الجزائرية، بعد ما منعت حكومة الأبارتايد في جنوب أفريقيا عودتها للبلاد وسحبت منها الجنسية عام 1963، فلم تستطع العودة إلا عام 1990 بعد رحيل تلك الحكومة. النتيجة هي أنها بدلاً من أن تعود لجنوب أفريقيا  أخذت جنوب أفريقيا نفسه للعالم. 

كل من عاش في تلك الحقبة وقع في غرام ماكيبا بشخصيتها القوية وضحكتها الآسرة.

أذكر عندما قدمت أغنية (الطرقعات) click song عندما قالت للجمهور إن الغربيين سألوها عن معنى هذه القرقعات التي تصدرها بلسانها، فضحكت وقالت: هذه ليست قرقعات.. هذه لغتي!...

ثم أنها قدمت الأغنية لتبهر الناس بقدرة الخوسا على إطلاق عدة أنواع من الطرقعات هي نفسها حروف في لغتهم، وتطلقها في ذات وقت نطق الحروف الأخرى كأن لها لسانين!!. لهذا اطلق البوير على قبائل الخوي خوي اسم الهوتنتوت، بمعنى (المتلعثمون)!

المفترض أن هذه أسطورة تحكي عن الخوسا وكيف لو ضلوا طريقهم في العالم فإن خنفسة ذات طقطقة سوف ترشدهم إلى أوطانهم من جديد.

تعلمت من صديقي الذي يعمل في جنوب أفريقيا أنك يجب أن تنطق (خوسا) مع طرقعة باللسان على مؤخرة الأسنان كأنك لا توافق على شيء ما،  وهو ما يكتبه الغربيون tut tut.. إن لغتهم تتضمن ثلاثة أنواع من الطرقعة:
سي = طرقعة أمامية. ضع اللسان خلف الأسنان وطرقع..
كيو = طرقعة علوية.. أثناء نطق حرف O طرقع بطرف لسانك على سقف فمك..
هناك طرقعة جانبية تبدو كصوت فتح سدادة الزجاجة....

كذلك ذهل العالم من الفحيح الذي تصدره بحلقها كأنها سحلية آدمية، وذلك في أغنية (أم أم بوندو). وقد قدمت للعالم فرقتها الصغيرة الراقية التي تتكون من عازفين أفارقة وبرازيليين. 

على أن أغنية باتا باتا كانت هي الأغنية التي قدمتها للجمهور المصري. ولربما تستطيع تذكرها على الفور لو كنت قد تجاوزت الخامسة والأربعين من عمرك، وفيها قدر لا بأس به من طرقعات الخوسا.

ولدت هذه الأغنية عام 1956 وصنعت شهرة ماكيبا. تقول في كلماتها إن هذه هي الباتا باتا فاصغي يا سيدتي .. الباتا باتا هو اسم الرقصة التي نرقصها في جوهانسبرج، حيث يبدأ الكل في الحركة بمجرد عزف الباتا باتا. في كل ليلة جمعة وسبت يحين الوقت ويبدأ الرقص.. وحتى تشرق شمس الصباح.


أما أغنيها الرابعة الشهيرة جدًا، فهي (ملايكة).. ومعناها (ملاك) كما عندنا في العربية. يمكنك سماع صوتها الرخيم الساحر بعيدًا عن الصخب.

ولدت هذه السيدة الرائعة في جوهانسبرج عام 1932 ، وأمها من قبائل الخوسا. بدأت شهرتها في الخمسينيات كما قلنا. ثم سافرت في جولة حول العالم وكان صوتها عاليًا ضد سياسة الأبارتايد أو التفرقة العنصرية، لذا اكتشفت بعد هذه الجولة عام 1960 أن جواز سفرها قد تم إلغاؤه وأنها لن تعود لجنوب أفريقيا أبدًا. عندما نفيت قالت: "لم أتصور قط قسوة هذا الشعور... قد تجد نفسك وسط أناس يغمرونك بالحب، لكنهم يشعرونك أنك معهم لكنك لست منهم!". عادت للولايات المتحدة حيث قدمت مع المطرب الشهير هاري بيلافونتي العديد من الألبومات، كما أن بول سيمون (من ثنائي سيمون وجارنكل) قدم معها حفلات عديدة. ولهما أغنية شهيرة هي (تحت سموات افريقية).

بشخصيتها القوية، فرضت الثياب وتسريحة الشعر الأفريقية على العالم كله، ولم تحاول التشبه بنجمات الغرب. أنا أفريقية وكفاني فخرًا. كما أنها صارت سفيرة نوايا حسنة للأمم المتحدة، وحصدت كمية جوائز يستحيل أن تتذكرها. الحقيقة أنها علمت العالم كم أن أفريقيا جميلة ونبيلة.

عام 1990 أطلق سراح مانديلا السجين في عيد ميلاده السبعين، فخرج وطلب من مريام ماكيبا أن تعود لوطنها. وطنها الذي تغير وصار البوير فيه أقلية منكمشة مذعورة.

حتى لحظة وفاتها عام 2008 كانت تناضل، وتقدم حفلاً يؤيد الصحفي الإيطالي سافيانو في كفاحه ضد منظمة المافيا النابوليتانية المعروفة باسم كامورا. أصيبت بنوبة قلبية بعد ما غنت باتا باتا وتوفيت على الفور. 

ستظل مريام ماكيبا تمثل للعالم الوجه الأصيل الساحر لأفريقيا، وكما قال أحد المعلقين البيض في يوتيوب: أشعر بالخزي لأنني لست أسود البشرة مثلها! إنها بحق ماما أفريقيا.