رسوم الفنان طارق عزام |
للحظة تألقت الغرفة بضوء أزرق غريب.. يشبه الأمر ذلك الضوء الذي يغمر الشارع كله عندما يكون هناك من يقوم بعملية اللحام. رائحة أوزون قوية لو كانت للأوزون رائحة..
كان التأثير الكهرومغناطيسي قويًا وشعر الرجال الثلاثة بأنهم في خلاط أسمنت.. طنين يصم آذانهم.. غثيان..
ثم بدأ دخان يغمر المكان..
هتف داريو وهو يقاوم حتى لا يفقد الوعي:
- ”هناك شيء خطأ… ثمة حريق في مكان ما..“
لكن لورنزو والدكتور كانا يتوقعان هذا.. المهم أن تنتهي هذه اللحظات سريعًا. للأسف لا يمكن الضغط على زر لإنهائها. هذه دورة تستمر 80 ثانية ولا بد من استكمالها..
فجأة دوى الانفجار، وشعر ثلاثة الرجال بأنهم يُقذفون للخلف. كان داريو قد أوقد فرن الموقد ذات مرة بينما كان مليئًا بالغاز، فانفجر وطار هو ليرتطم بالجدار. لقد تكرر ذات الشعور من جديد.
كان هناك.. يتنفس بصعوبة وهو على الأرض. نهض وراح يتفقد الآخرين…
كان هناك خليط من الأجساد المكومة. الدكتور.. مصطفى.. لورنزو.. استطاع أن يدرك أنهم يتنفسون..
الدخان يتصاعد من الجهاز..
راح يصفع خدي الدكتور حتى يفيق.. ثم بدأ يصفع لورنزو. من المؤكد أن مصطفى لم يمت.. صدره يعلو ويهبط بلا توقف…
فتح الدكتور عينيه بصعوبة وغمغم:
- ”لقد فشل كل شيء. فشل كل شيء“
ثم فتح عينيه عن آخرهما وهتف:
- ”أين أوتسي ؟“
بالفعل لا يوجد أثر للمومياء.. فقط تتدلى الأقطاب في الهواء وتتأرجح. لا يمكن أن تكون المومياء قد تفتتت لأن من تسقط فوقه قنبلة ذرية يترك بعض الفتات. هنا لم تعد هناك مومياء أصلاً..
- ”الغليون!… أين الغليون؟!“
غريب أن يكون الغليون أول ما خطر له.. لكن غرابة الأطوار مقبولة لدى العائدين من انفجار كهذا. نهض لورنزو بدوره وراح يتفحص أطرافه الطويلة.. من الواضح أنه سليم. على الأقل ما زالت أطرافه موجودة..
هتف لورنزو متحسسًا رأسه:
- ”المومياء!… هناك من سرقها!“
- ”كف عن هذا الكلام الفارغ! نحن لم نغب عن الوعي أكثر من دقائق..“
- ”إذن؟؟“
قال د. باولو وهو يحشو الغليون الذي وجده:
- ”الاحتمال الوحيد بالنسبة لي هو أن الطاقة قد بخرت المومياء.. تلقت شحنة حرارية هائلة محتها من الوجود“
- ”رباه“
- ”وهذا معناه أننا فقدنأ أثرًا تاريخيًا لا يقدر بثمن.. لقد كانت مغامرة بائسة، وقد دفعنا نحن والعالم ثمنها غاليًا“
هنا راح مصطفى يئن، فألقى د. باولو نظرة كارهة عليه وقال:
- ”لم يحدث شيء لهذا اللعين.. حساباتي خاطئة!!“
تساءل داريو:
- ”وماذا نقول له عندما يفيق؟“
همس الدكتور حتى لا يسمعه مصطفى الذي يجيد الإيطالية تمامًا:
- ”الانفجار سوف يساعده على تصديق أي قصة.. سيحسب أن قطاعًا قد مُحي من ذاكرته مع الانفجار، ولسوف يكوّن ذاكرة زائفة عما حدث“
***************
رأى مصطفى البلطة الهائلة تتجه نحوه فارتمى فوق الثلوج..
لم تصبه البلطة.. كان يشعر بالسهم يبرز من صدره، وقدر أنه لم يؤذه جدًا. مد يده وبقوة انتزع السهم فانبثق خيط من دم وراءه..
أين أنا؟ ماذا أتى بي هنا؟ هذا البرد الشديد.. لماذا أرتدي هذا الفراء؟
من اين جاءت هذه الثلوج الكثيفة؟ من هؤلاء المهاجمون؟
على كل حال رأى رجلين يهرعان نحوه، وكان على حافة جرف زلق. عرف أن أي حركة ستلقي به من عل، لا يستطيع عمل شيء. الأقدار تدخلت في اللحظة المناسبة، فقد انهارت الأرض تحت أقدام الرجلين، فصرخا وتناثر الجليد الناعم..
رأى عددًا من السهام تنطلق نحوه فركع على الأرض…
ماذا حدث؟ كان يشرب النبيذ مع البروفسور في الكوخ الدافئ، ثم حدث شيء ما.. هذا كابوس…
صاح بأعلى صوته بالإيطالية:
- ”ماذا تريدون مني؟“
فجاءته الإجابة أقرب للزئير.. هونجا هونجا.. مووووووووه!….
هؤلاء نوع من الوحوش.. لا شك في ذلك..
كانوا قادمين من أسفل الجرف وهم يعوون ويزأرون ملوحين ببلطات نحاسية ملفوفة بجلود الحيوان. أدرك أن قطعة الجليد التي يقف خلفها قابلة لأن تتفكك.. ركع وهوى عليها بضربات متسارعة بالبلطة. ركلها بقدمه.. تدحرجت لأسفل ككرة ثقيلة راحت تزداد حجمًا وسرعة وهي تندفع..
عندما بلغت المهاجمين كانت سلاح قتل.. أسقطت اثنين في الثلج وبعثرت اثنين ولعلها مرت فوق واحد.
صرخ بأعلى صوته:
- ”أنتم تتلقون العقاب!“
أسند ظهره للجدار وراح يحاول تهدئة ضربات قلبه الموشك على الانفجار.. اهدأ.. اهدأ.. من الواضح أنهم أغبياء.. شرسون لكنهم أغبياء. أنت تملك الذكاء وبالتأكيد سوف تتمكن من قهرهم..
راح يتأمل الوشم الغريب على ذراعيه.. ثم راح يهرش شعره المنكوش.. التقط قملتين من شعره تفحصهما في هلع، وشعر بأن هناك بركان نار في معدته..
أين رأى هذا الوشم من قبل؟
ثم ارتجف هلعًا.. كان هذا منذ ساعات..
المومياء !!!
***************
- ”هل ترغب في الرحيل يا مصطفى؟ سنعيدك إلى بولتسانو“
- ”هل أنت بخير؟“
- ”أنت بحاجة لنوم عميق“
قال د. باولو:
- ”إنه في حالة صدمة عصبية.. أرى أن نعيده لمسكنه حالًا.. كلارا صديقته تعرف كيف تعنى به.. لا.. لا أطباء“
لم يتكلم مصطفى.. بينما شعره الطويل يغطي وجهه وهو يستند إلى داريو ولورنزو.. أطلق صوتًا غريبًا من بين شفتيه وزاغت عيناه.. بدا كمن يحملونهم للشنق عندما تتخلى أقدامهم عنهم..
في توتر سانده الرجلان متجهين إلى خارج الكوخ.. لحق بهما د. باولو وهو يرمق الكوخ في حسرة..
جلس في السيارة الڤان جوار السائق داريو، بينما جلس لورنزو جوار مصطفى في الجزء الخلفي.. دار المحرك وانطلقت السيارة وسط طريق الجبال، بينما بدأ الأفق يتلون.. إن الفجر قادم بعد ليلة عصيبة طويلة.
كان باولو شارد الذهن… يدخن الغليون محاولًا فهم لماذا فشل..
أنت تعرف طبعًا أن وعي مصطفى انتقل ليسكن جسد أوتسي.. بينما وعي أوتسي قد صار في جسد مصطفى، لكن هؤلاء الحمقى لا يعرفون ذلك..
إنهم سذج.. أليس كذلك؟
يُتبع