لا أعرف تفاصيل الخلاف بين المستشار السحيمي ووزير العدل، ولست في موضع يسمح لي بتبين الحقائق. القصة غارقة في الضباب، وكل المعلومات مختلطة كالعادة. تقدُّم وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قد قضى نهائيًا على حالة اليقين من أي شيء. في يوم واحد قرأت خبر القبض على إسلام جاويش فنان الكاريكاتور مئة مرة، وقرأت تكذيب الخبر مئة مرة.
على أن استقالة المستشار تمر بثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: هي الاستقالة. قيل إن الأمر بدأ بخلاف بينه وبين المستشار الزند منذ زمن عندما طالبه بالإعلان عن ميزانية نادي القضاة، وقيل إن الزند رد: "ميزانية ايه اللي عايزها ياله؟". قدم المستشار رسالة لرئيس مجلس القضاء الأعلى يقول فيها: ”لأن العدل أمانةُ السماء فإن أهل الأرض جميعهم مُؤْتمنون عليه أن يؤدوه فيما بينهم، لا تثريب على من لم يقدر، فَقِلّة الحيلةِ لا تنال من شرف الرجال، وإنما يهجر الأنبياءُ أرضَهم إذا اشتدت يد الشرك تنال عُصْبَتُه منهم، وإني ها هنا لا أشكو ضعف قوتي ولا هواني على وزير العدل، فإن قَدِرَ هو على ظُلْمي وما خشيَ أن تحيط به ظلمات يوم القيامة فإنَّ لمثلي ربٌّ يردُّه، فإن أمهله في دنياهُ هذه فإنه لن يهمله في يومِ موقفٍ عظيم”.
يا خبر أسود على الفصاحة وقوة الأسلوب!. كأنه يكتب خطابًا للمنفلوطي مثلاً. واضح طبعًا أنه درس القرآن ويستعمل مفرداته بسلاسة تامة، ومتعمق جدًا في كتب التراث ويحفظ دواوين شعر كاملة، وبالتأكيد درس خطب سيدنا علي جيدًا.
إن الأمر يزداد رهبة إذ يقول: "كان الوزير في يومٍ صوتَ القضاة، رئيسًا لناديهم، وقد عارضتُه في ملأه حينئذ أشد معارضة، فأسرَّها في نفسه حتى إذا اعتلىٰ وزارتَه عاود الخصومة من ديوانها، فأضحى صوتُنا سوطًا علينا، فنبَّهني تنبيهًا يُوقفني عن ترقية، ثم أقصاني إلى الجنوب، حيث محكمة قنا ليترصَّدني بأعباء العمل، فوزَّعه بين رفاقي من القضاة بغير عدل، حتى أصبح المنظور لديَّ من دعاوى الجنح يفوق في اليوم ألفًا ورَبَتِ الدعاوى المدنية فجاوزتِ الثلاثمائة وخمسين، فهل أكذب بعد كل هذا أنهم يتعجلون خلاصًا مني، بل أصدِّقُ أن الوزيرَ منتقمٌ غيرُ ذي عفوٍ، وإني لأُعاجل عُنُقي بذبحٍ قبل أن ينالها بطعنة موتور".
أكاد أسمع الشاويش عطية الظريف يقول بلهجة شبه باكية: "يا جدع انت أنا ما بأفهمش كلامك". قال أحد رفاقي ساخرًا إن معظم الناس سيحسبون الرجل يتكلم عن موتور سيارة عندما يقول (موتور)، وبالتأكيد سيتساءلون كيف يطعن الموتور؟.
يستطرد المستشار: "إن القاضي الجزئي بمحكمة قنا لا قِبَل له بوزير العدل، لا يملك سوى نفسه ويملك الوزيرُ نفوسَ رجال، ............ فإن بلغكم كتابي هذا عند مجلسكم فرُدُّوهُ، وما تردُّون إلا نفسي إليَّ، أما إذا بلغكم وقد رضيتم فتلك استقالتي، أرفعها إليكم وما يرفع النفوس سوى عزٍّ بأهله، فاقبلوها وإني لكم من الشاكرين".
نحن إذن نتعامل مع خطاب ذي أسلوب جزل عال جدًا، صار نادرًا كالطربوش بالضبط، ولا شك أن هذه الخطاب يمكن أن يدخل مناهج اللغة العربية بعد أعوام، ويطبع المدرسون مذكرات تحوي نقاط البلاغة ومواطن الجمال فيه. اذكر موطن الجمال في قول السحيمي (فأضحى صوتنا سوطًا علينا).. جرس موسيقي. لماذا قال (فإن بلغكم كتابي هذا)؟. الحتة دي جات في امتحان 2017 و2018 يا كباتن.
في زمن صار فيه وزراء التعليم يكتبون (مزيع قناة الجذيرة) و(ألزمة المالية) و(متقوليش متقوليش... جيش بلدنا زيه مفيش)، يذكرنا هذا الخطاب بلغة المنفلوطي أو جريدة المقتطف واللطائف.
المستشار في لقائه على الفضائيات قال بوضوح: "أنا أتقدم على الهواء باستقالتي مرة أخرى، وهي نهائية لا رجعة فيها".
عندما يكون خصم القاضي هو الزند، فالناس مستعدة لأن تتبنى جانب السحيمي، خاصة إذا كان يملك هذا الأسلوب الراقي الرفيع. وهذا بالطبع قياس غير عادل لأن الفصاحة لا تعني بالضرورة أنك على حق. لكن الأمر تداخل مع قضايا الزند ضد يوسف الحسيني وضد هشام جنينة، وتعديل قانون الإجراءات ليتضمن جواز عدم الاستعانة بشهود في المحاكمات، والذي أغضب قضاة مجلس الدولة لأنه مخالف للدستور. دعك من مطالبته بعقاب الإخوان بالجملة لكل حادث إرهابي على طريقة هتلر مع بولندا، ودعك من قولته الشهيرة لعكاشة: "نحن أسياد البلد والباقون عبيد" وهي موجودة على يوتيوب حتى لا يشك أحد.
المرحلة الثانية: هي الاعتذار. رفض الزند الاستقالة، ثم توجه له المستشار – كما قيل مع زوجته ووالدته – للاعتذار. وبرر ما كتبه سابقًا بتوتره النفسي بعد وفاة أبيه.
المرحلة الثالثة: الاعتذار عن الاعتذار. وفي رسالة بليغة أخرى بنفس الأسلوب الجزل الفخم، وهو جو يذكرنا باعتذارات النابغة الذبياني أو اعتذارات الشعراء العباسيين للخلفاء. ويقول إنه لم يأت مع والدته للاعتذار كما قالت الصحف، فيقول: "أما عن خبر بثته الجرائد، أنى وأمى جئناك معتذرين، وأنا لزمنا بابك كعزيز قوم ذل، فهو شجرة خبيثة بذرها رجالك ليتخذوها زينة عند سيدهم، وقد سوّلت لهم أنفسهم أن ما يفعلونه نفعله، ونأتى إليك مثلما يأتون، وإنك تعلم أنه ما أبعده عن شرفى، وأن نساءنا عرض، لا يعتذرن فى مجالس الرجال.......................... ما كان لأمى ولا لامرأتى أن يأتياك إلا لقربى بيننا، عهد أبينا الذى عند ربه، لقد رافقانى الطريق إليك، قلبان يخفقان، وإنى بما أشفقت طاوعتهما، فأتيا فلزما مواضع السيارة خارج الديوان، وأنك من دعوتهما بفضل منك".
لاحظ خبير لغوي أن الرسالة فيها أخطاء لغوية برغم هذا، مثل ما (كان لأمى ولا لامرأتى أن يأتياك) بينما (الصواب أن تأتياك) وكذلك (فأتيا فلزما مواضع السيارة) والصواب (فأتيتا فلزمتا).
ثم أنهى المستشار الرسالة بالثناء على الزند "ما زالت بقلبك بعض من أبوة عاملتنى بها، والسلطة فى يد صاحبها لا تترك له قلبًا يلين، فبما رحمة منك رددت علىّ استقالتى".
الخلاصة أن القصة كانت مشكلة داخلية وتم حلها. الموضوع انتهى من طرف صاحب الشأن نفسه ولم يعد ثمة مجال للمزايدة من طرف ثالث... استقالة ثم اعتذار ثم مذكرة تفسيرية للاعتذار. أو اعتذار عن الاعتذار. فلم يبق من القصة سوى موضوع تملأ به الفضائيات ساعات البث، ومقال أكتبه أنا هذا الأسبوع حتى لا تطردني الجريدة، وبالطبع قطعتين من أدب الخطابات الرفيع الجدير بالتدريس، وهما النفع الوحيد لهذه القصة.