سوف أريحك قليلاً هذا الأسبوع فلا أتكلم عن موضوع الساعة: مستشفى المطرية ونقابة الأطباء وضحايا مستشفى رمد طنطا. تكلمت عن هذا في مكان آخر، وما زال لدي الكثير جدًا مما يُقال بعد دراسة الموضوع جيدًا، لكني قررت ان أعطيك إجازة، مجازفًا بأن أتلقى التعليق الظريف: "أين أنت من هذا كله؟ واضح أنك مغيب" مع التعبير الجديد الأظرف "انت عامل من بنها". شرحت لي صديقة عزيزة موضوع بنها هذا، فقالت إنها وسيلة للتغابي أو (الاستعباط) لا أكثر. حيلة يتظاهر بها راكب القطار حتى لا يدفع ثمن التذكرة. والسؤال الذي خشيت أن أسأله لها هو: ماذا لو كان المرء من بنها فعلاً؟
موضوع المقال هو عن هؤلاء الأشخاص الذين يعتقدون أنهم بلغوا ذروة العلم.. لا جديد تحت الشمس.. لا شيء نعرفه أو نتعلمه. لا يثير غيظي مثل العليم بكل شيء الذي يرى أنه لا داعي للأسئلة. الحياة كلها مسلمات منتهية. الفنانون كلهم منحلون.. الصحفيون كلهم منافقون.. المحامون كلهم مرتشون.. كل الساسة عملاء. الأطباء مهملون وأثرياء وبلا رحمة.. أفلام زمان محترمة و(لها كصة).. الأكل كله مسرطن وخطير.. لا توجد استثناءات.. لا مجال للدهشة. هكذا لو ذبح طبيب مريضًا فلا مشكلة. هذا شيء معروف.. كلهم كذلك.
لو كان الرجل ذا ميول إخوانية فهو يرى أنه من المفروغ منه أن أمريكا والدولة كلها تحاربان الإسلام، أما إن كان منحازًا للسيسي فهو يرى بوضوح أن أمريكا تدعم الإخوان المسلمين لتدمير مصر.. أي خبر جديد يصل ليس جديدًا، بل هو كلام معروف من قبل..
يقينه الدائم هو: ما أشد فراغ الناس!! لماذا يطبعون الصحف ولماذا تقدم برامج التلفزيون؟ ما جدوى الإنفاق وكل شيء معروف..؟
كانت مس ماربل بطلة أجاثا كريستي تسمع عن جريمة ذبح فيها القاتل أسرة كاملة مثلاً، فلا تندهش وتقول في رقة وهي تعد الشاي:
ـ"حدث مثل هذا في قريتي سانت ماري ميد"
حتى أن ناقدًا بريطانيًا قال: "يخيل لي أن قرية سانت ماري ميد هذه كانت معقلاً للرذيلة ألعن من سدوم ألف مرة".
هناك كذلك طريقة شهرزاد الشهيرة: "وما تلك بأعجب من قصة الحمّال والنسوة الثلاث". على أن شهرزاد ومس ماربل كانتا تعرفان بالفعل أشياء أغرب، لكن بطل مقالنا هذا ومن على شاكلته لا يعرفون شيئًا على الإطلاق. إن الملل عاطفة مبررة بشرط أن تكون قد سمعت عن هذا من قبل فعلاً.
قلت لواحد من هؤلاء إن النيل صار يعج بالتماسيح، فقال في لا مبالاة:
ـ"وما في ذلك؟ إنه التلوث.. هذا شيء معروف"
قلت له إن هناك أكثر من رضيع فاقد الأهلية وجدوه في طنطا مؤخرًا، وقد ألقاه أهله فوق كوم قمامة على أمل أن تلتهمه الكلاب. يبدو أن هذه صارت هواية محببة، فقال لي:
ـ"الناس صارت قاسية.. هذا شيء معروف"
هذا الطراز من الناس يشعر طيلة الوقت أنه من العيب أن تندهش أو تهتم أو تسأل. هذا دليل لا شك فيه على الضعف. من يسأل يثبت أنه شخص ناقص غير مكتمل.
أحكي لواحد من هؤلاء خبرًا قرأته في النت:
ـ"الفنانة فلانة أنجبت سحلية إجوانا من دون زواج.. ثم ذبحت طفلاً رضيعًا واستنزفت دمه، ثم أحرقت جثته وخلطت الرماد بالدم وعصير الليمون وشربت، ثم مارست الجنس مع كل من يمر في شارع رمسيس.."
أقول هذا له، فيقول في ملل:
ـ"ما الغريب في هذا؟ الفنانون جميعًا يعيشون في انحلال أخلاقي!!"
مستحيل أن أعبّر.. أقول: مممممه... وأسكت موشكًا على الموت بنزف في المخ. كما قلت: الملل عاطفة مبررة محترمة بشرط أن تكون قد سمعت عن الأمر قبل فعلاً. الملل لا يجب أن يعميك عن العلم.
كان هناك موقع صحفي له طابع ديني، وإن كان يتلاعب بعقل القارئ بشكل واضح، وهو ملئ بالأكاذيب. مؤخرًا بدأ الموقع ينشر مقالات من نوعية: "شاهد الفنانة فلانة تتعرى" أو "قصة الأخ مع أخته". قلت لصديقي إن هذا غريب جدًا. فقال:
ـ"ما الغريب؟ هذا موقع قذر أصلاً "
كدت أجن.. هذا الموقع قذر لكنه يمارس طريقة مختلفة من القذارة. لم يكن من عاداته قط أن يستخدم الجنس كعنصر جذب. لكن صاحبي مصر على أن القذارة هي القذارة..
نفس هذا الطراز من الناس ملأ العالم الغربي يومًا ما، عندما ظنوا أن أرسطو قال كل شيء ولا قيمة لأي شيء يُقال بعده.. لا جديد تحت الشمس، وعندما أفاقوا كان هذا متأخرًا جدًا لكنهم على الأقل أفاقوا..
نسيت أن أقول إن هذا الطراز من الناس فاقد تمامًا لروح الدعابة غالبًا.. معهم تشعر أنك (ستاند أب كوميديان) يمثل أمام جمهور واجم خال من الانفعال. تحكي وتتحمس وتحبك حكاياتك لكنك لا تلاقي أي نوع من الانفعال..
تحكي لهم ضاحكًا عن صديق لك لا ينزل من داره بعد السادسة مساء، فيقولون: "فعلاً.. لم يعد هناك أمان في هذا العالم". تحكي عن فتاة في السادسة من عمرها حملت سفاحًا، فيقولون: "ما الجديد؟ كلنا يعرف أن الأخلاق انحدرت". كل شيء لا يثير الدهشة.
يمكننا فهم ما شعر به ابن الحجاج عندما قال بيتيه العبقريين:
قد قلت لما غدا مدحي فما شكروا ... وراح ذمي فما بالوا ولاشعروا
عليّ نحت القوافي من مقاطعها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر
الأهم هو أن الناس قررت بلا مناقشة أن هذين البيتين يخصّان (المتنبي – البحتري – ابن تمام). هذا شيء معروف. قرأت البيت الثاني بصيغة (من معادنها) ومن (مقاطعها) و(من معاذلها).
المؤسف أن المرء خلال الخمس السنوات الماضية رأى الكثير جدًا. رأى الكثير من الدم وسمع أغرب الأخبار. بالتأكيد ترتفع عتبة الإحساس والدهشة عندك مع الوقت.. أنت تفقد القدرة على الدهشة ونعمة الصدمة يومًا بعد يوم، كما قال يسري فوده في تويتة له. بالتالي أنت تتحول لواحد من هؤلاء مع الوقت. وعما قريب سوف يُقال لك إن طبقًا طائرًا اصطدم ببرج القاهرة، فتقول في حكمة: "وما في ذلك؟ كلهم يصطدمون.. هذا شيء معروف".