قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, February 19, 2016

الغلايــة



هذا البوست متداول على النت باعتباره كلامًا كتبته زوجة أحد الضباط تخاطب الأطباء الغاضبين. الشبكات الاجتماعية تخدع بلا رحمة وتزيّف الوعي، ولعل هذا البوست زائف بغرض التهييج، لكن لو كان صحيحًا فإن هذا يعكس الكارثة التي يواجهها الأطباء في مصر. لاحظ المنطق المعكوس الغبي: "معظمكم من أصول تعبانة لأن هما دول اللي بيجيبوا مجموع في الثانوية العامة". حسب الكلام، أولاد الأكابر لا يحصلون سوى على 50% في الثانوية العامة ويدخلون كليات النفوذ.. في مصر هناك كليات قمة وكليات نفوذ. أما من حصل على 98% فهو من أصل منحط و(بيئة). أرجو أن يكون هذا البوست مزيفًا وإلا فالأمر كارثي فعلاً.

أعتقد أنني لا أملك بقعة عمياء تجاه الأطباء، وأدرك أنهم يخطئون كأي مهنة أخرى في مصر، غير أن أخطاءهم قد تساوي الفارق بين الحياة والموت. انتقدتهم مرارًا في أكثر من موضع. هذا المقال على سبيل المثال.. وهذا المقال.. وهذا...

لكن ما لاحظته هو أن وسائل الإعلام تخلط ما بين قضيتين:

القضية الأولى: بعض الأطباء يخطئون، أو يعاملون المريض بلا رحمة، أو يغالون في الأسعار. هذه قضية عادلة.

القضية الثانية: أمناء الشرطة البلطجية يعتدون على الأطباء في أكثر من واقعة. والدولة لا تمسهم بضر من أي نوع. إنهم أحرار يفعلون ما يريدون. جاء دورهم بعد دور الأهالي البلطجية.

القضية الأولى تستحق عدة مقالات، والقضية الثانية تستحق عددًا أكبر، لكن الخلط بين القضيتين نوع من العبث سيئ النية بالمنطق. حسب هذا الاستدلال الفاسد، فالأطباء يخطئون.. إذن لا بأس على الإطلاق في أن يضربهم أمناء الشرطة بالجزمة ويهددوهم بالمسدسات في محل عملهم. هذا الخلط هو ما فعلته الهانم زوجة الباشا صاحبة البوست في أول الصفحة.

هكذا وقعت الواقعة الشهيرة لحاتم البلطجي الذي ضرب طبيب المطرية، وقد كتبت عنه هنا، وكان حديث وسائل الإعلام لفترة كبيرة. هنا تشهد ممرضة سهرانة ضده وتدعم رواية الطبيب.. وفي نفس الوقت تقريبا سمعنا عن خمس حوادث مماثلة وصفع ممرضات.. إلخ..من هنا بدأ كل التصاعد الذي حدث في نقابة الأطباء، والذي بلغه ذروته في (ثورة الجمعية العمومية) يوم 12 فبراير 2016. شاهد هذا الكليب.


لا شك أن الضغط في الغلاية عال جدًا، ومن حسن التصرف أن تركت الحكومة الغلاية تخرج بعض البخار اليوم وإلا لانفجرت فينا جميعًا ومحقتنا. وأعتقد أن إجراء جديًا سيتخذ هذه المرة ضد أمناء الشرطة البلطجية لأن غضبة الأطباء مخيفة فعلاً.

هبت وسائل الإعلام لا لتعيد الأمور لنصابها بل لتخلط القضيتين ، وتتحدث عن أن الأطباء مهملون كأن هذا مبرر لضربهم بالأحذية. فجأة خرجت الملفات من البالوعة وأفردت صحيفة كاملة صفحتين لانتقاد الأطباء، وفي هذا الكليب مشادة بين وائل الإبراشي مع عضو مجلس الأطباء حول موت 7 أطفال في قسم جراحة القلب، والطبيب يصر على أن هذه نسبة وفاة متوقعة عالميًا بالنسبة لعدد الجراحات التي تجرى للأطفال في عين شمس، بينما الإبراشي مصر على أنها "مجزرة".

هنا تقدم الأقدار للإعلام هدية لا تقيم بثمن: هدية اسمها حقن الأفاستين. المكان هو مستشفى رمد طنطا.


لا أزعم بتاتًا أنني أملك خلفية كافية عن الموضوع، فأنا بعيد عن تخصص أمراض العيون. أعرف أن مادة (بيفاسيزاموب bevacizamub) تستعمل في أورام الجهاز الهضمي لأنها تقلص من أوعية الورم، لكن لم أعرف أنها تحقن في العين بغرض تقليص زحف الأوعية على جزء معين من الشبكية في مرض السكري الشبكي والجلوكوما الوعائية.

شاهد عملية حقن الأفاستين في هذا الكليب. ما حدث هو أن عددًا – يتغير كل ساعة – يقترب من خمسة عشر من المرضى في مستشفى رمد طنطا تلقوا علاجًا بهذه الحقنة، وكانت النتيجة هي العمى. وهكذا خرجت وسائل الإعلام لتظفر بالأطباء. المادة غير قانونية ومحرمة دوليًا وغير مصرح بها. إذن فالأطباء يستحقون أن يُضربوا بالحذاء في كل مكان.

عرفت القصة من زملائي أساتذة أمراض العيون، وفيما بعد قرأت شهادة كتبها واحد من أهم أعلام أمراض الشبكية، والطبيب ذو الشهرة الدولية (حموده غرابة) أستاذ أمراض العيون بطب طنطا:


وهو كلام واضح ومرتب. مادة لوسنتيس باهظة الثمن وقد أوقفها العالم كله لأنها باهظة الثمن. أفاستين رخيص لا يتجاوز ثمنه عُشر العقار الأول.. كل العالم يستعمله بنجاح.. له نفس النتائج ونفس الآثار الجانبية. في بلد فقير مثل مصر لا تصير قاعدة (الغالي تمنه فيه) مطلقة النجاح. لو أكلت قطعة دجاج أو حقنوك بمحلول باهظ الثمن من الأحماض الامينية فالنتيجة واحدة.. فماذا تختار؟

لكن الأمر يختلف إذا كانت هناك شركات عملاقة يهمها أن تستعمل العقار باهظ الثمن. إذا كان هناك مستورد يريد ألا يستعمل الأطباء البديل الرخيص. هذا أمر جدير بالتحقيق.

قال أطباء مستشفى الرمد في بيانهم: " أما عن الحالات المشار إليها والتي أصيبت بالتهاب ميكروبي بالعين ما بعد حقن مادة الavastin بالجسم الزجاجي فان تلك الإصابة من المضاعفات المحتملة والتي يعلم المريض بها من خلال الطبيب ويوقع بالموافقة على إجراء الحقن مع احتمال حدوثها. عدد الحالات المصابة ٥ حالات، ٣مستقرة و ٢ بحالة سيئة".

النتيجة النهائية سيئة جدًا لأن أي مريض لن يسمح للطبيب بحقن مادة أفاستين الرخيصة الفعالة في عينه بعد اليوم. نفس ما كان سيحدث لعقار سوفسبوفير (سوفالدي) الرائع الذي أوقفه أكثر من مريض بالتهاب (سي) لأن الإعلام الأبله غير المسئول أثار ذعره. حكيت من قبل عن محاولة غير علمية لتخويف الناس من عقار البرازيكوانتيل جم الفائدة، وقد فشلت ولله الحمد.

لكن يجب أن نتذكر.. حماسنا لمادة أفاستين لن تنسينا أن تلوثًا قد حدث. والتلوث في أمراض العيون معناه العمى. وهو بالتأكيد مسئولية المستشفى. لو لم نعترف بهذا لكنا نخلط الأوراق كما خلطها كارهو الأطباء. هناك تلوث.. يجب محاسبة المسئول ومحاسبة وحدة السيطرة على العدوى.. لكن لا نسمح لأمناء الشرطة بضرب الأطباء برضه!!