أولاً أقدم التحية والاحترام للفارس النبيل الذي قرر الإعلام أن يذبحه ذبحًا لمجرد أنه أراد الدفاع عن كرامة طبيبين من أبناء نقابته أمام بطش وزارة الداخلية.
يجب أن أقدم له احترامي في موضع بعيد عن حديث العك واللغوصة القادم. أنت تعرف الاسم وتعرف الوجه الذي يذكرك بملامح أينشتاين.
الأستاذ الدكتور حسين خيرى نقيب أطباء مصر المنتخب. الجراح العظيم (النطاسي) بالمعنى الحرفي للكلمة. (راهب القصر العيني) كما يسمونه، أو (صديق الغلابة). لم تكن له عيادة قط وكرس نفسه لتدريس الجراحة لطلبة القصر العيني، مع إعطائهم مجموعات دراسية مجانية، وعلاج المرضى في القصر العيني.
الرجل لم يدرّس لي لكني قرأت ما كتبه تلاميذه المتحمسون عنه. لم يتزوج بل وهب حياته للطب بالكامل. ويقولون إنه اعتاد الزهد والتواضع لدرجة أنه لم يعد يعتبر ما يقوم به شيئًا غير معتاد. لا شك لدي في أن د.ياسر الجندي الذي كتبت عنه مقالاً قديمًا هنا، لو عاش إلى اليوم لصار نسخة أخرى من هذا الرجل.
أحيي الفارس النبيل الذي يقف صامدًا أمام عاصفة حسابات النفوذ والرغبة في إرضاء السلطة بأي ثمن، حتى لو كان إهانة الأطباء، وقد جاء الدور عليهم بعد الإخوان كما هو واضح. لن أتكلم أكثر عن هذا الموضوع لأنني تكلمت عنه ببعص التفصيل في المقال السابق (حاتم في الاستقبال).
نحن معك يا دكتور حسين. نحبك. كذلك ندعم دكتورة منى مينا المعدن الثمين الأصيل الذي لا يصدأ أبدًا. ربما أكون مبالغًا لكنني أشعر دومًا أن منى مينا هي مصر بشكل أو آخر.
الآن ننتقل لموضوع المقال الأصلي:
حتى لا يصدمك العنوان، نقول إن العكّ هو على الأرجح اختصار للفظة (عكل) التي تعني الحماقة، بينما اللغوصة لفظة غير موجودة في المعاجم، لكنها تعني في معظم اللهجات العامية العربية جمع المتناقضات ووضع اللبن مع السمك مع السكر في إناء واحد. على كل حال، مهما كان الأصل اللغوي للفظتين فهما معبرتان جدًا.
في فترة قصيرة جدًا رأيت كمًا هائلاً من العثرات الذوقية المريعة، حتى أنك بالتأكيد لابد أن تنسى بعض النماذج. في البداية رأينا تمثال نفرتيتي المرعب الذي وضعته الوحدة المحلية لسمالوط عند مدخل المدينة، وأثار هلع الناس وامتعاضهم. وقد استجاب رئيس المدينة لغضبة الناس العارمة ورفع هذا الشيء المقرف. قال إنه كان هناك تمثال أكثر إتقانًا لنفرتيتي لكن الإخوان – كالعادة - حطموه مما جعل الوحدة المحلية تقبل بأن يصنع أحد المواطنين تمثالاً للملكة الفاتنة. عندما تتأمل التمثال تدرك بوضوح معنى كلمة عكّ. عجز تام عن فهم الوجه البشري أو الجمال. قارن هذا بالوجه الحساس المرهف بنظرته الحالمة المتأملة وعنق الغزال. الجمال اللاذع الذي ظل محفوظًا لنا عبر العصور. هناك فارق 4000 سنة بين التمثالين فماذا حدث لنا بالضبط؟ هل هبطت قنبلة نووية لتنسف تذوقنا؟
بم يمكن أن تسمي هذا سوى لفظة (العك)؟
ننتقل الآن إلى تحفة فنية أخرى، هي تمثال العقاد الذي صنعته أسوان تكريمًا لابنها المفكر والفيلسوف والأديب العظيم. منذ البداية رأيت أن هذا التمثال لا يشبه العقاد بتاتًا، لكنه يذكرني بشخص ما لا أعرف من هو. رواد الفيس بوك وجدوا الحل سريعًا. هذا ليس تمثالاً للعقاد بل هو تمثال للتبّاع بطل مكالمة (هبة يا حبيبتي) الجنسية الشهيرة. عندما يصير التباع نجم فضائيات لمجرد أنه أجرى مكالمة جنسية، يصير من حقه أن تصنع له أسوان تمثالاً. عكّ ...
نأتي إلى معبد الكرنك. المعبد العظيم الذي استوعب كل تاريخ قدماء المصريين وملوكهم وآلهتهم. تقريبًا هو تأريخ كامل لذلك العصر. ربما لو امتلكت دولة مثل أسبانيا أو بلغاريا أو .. أو معبدًا كهذا لاستطاعت أن تجعله موردًا قوميًا رئيسًا... يعني هذا المعبد وحده يمكنه أن يقيم أود دولة. كنموذج للّغوصة تعلق الحكومة فيه زينة صينية احتفالاً بقدوم الرئيس الصيني. ذوق بلدي مستفز وخرق كامل للحدود بين طراز وآخر. التعريف العملي لكلمة (لغوصة).
لكن معبد الكرنك لم ينل كفايته من اللغوصة بعد. سوف نرى الآن كيف أنهم جلبوا للترميم مبيض محارة!.. نعم.. أنت لم تخطئ القراءة.. مبيض محارة يحمل قصعة أسمنت وأجنة ومسطرين. لا مزاح هنا. والنتيجة كارثية طبعًا. تدمير تام لنقوش قدماء المصريين الساحرة. وهو خطر نبه له الفنان هاني المصري يرحمه الله.
الشيء ذاته فعلوه في معبد سرابيط الخادم في سيناء وهو معبد قريب من رأس سدر، وخصص لعبادة حتحور. معبد يقطع خبراء الآثار في العالم أيديهم مقابل أن يكون على أراضيهم.
طبعًا نحن نعرف قصة ترميم ذقن توت عنخ آمون بأنبوب أمير. ونعرف قصة رجل قطونيل. هل هذا عك أم لغوصة؟ أرجو أن تحدد أنت.
نأتي الآن إلى مشكلة تصفية الحسابات مع كليوباترا الملكة العظيمة ذات الأصل الإغريقي، التي حكمت مصر 17 عامًا صاخبة. هناك أولاً تمثالها العجيب الذي وضعوا له ميك أب كما ظهر في مواقع التواصل الاجتماعي. وبالطبع لم يرحمه أحد.. نكات كالرصاص تنهال عليه.
هناك تمثال محطة الرمل باسكندرية الذي حار الناس في معرفة هل هو تمثال كليوباترا أم صفية زغلول، والأرجح أنه وجه مبارك. وقيل إنه كان سيمثل هيباتيا الفيلسوفة الشهيرة. تمت تغطية التمثال إلى حين إجراء تعديلات عليه. أعتقد أن تعريف عك ينطبق هنا.
هنا تمثال آخر لكليوباترا في متحف النيل بأسوان، يكشف لنا كم أن الورش التي تصمم موديلات المحلات موهوبة عبقرية. المفترض أن هذا وضع مسترخ تضطجع فيه الملكة. لكن لم يقصد أن يكون هذا عملاً فنيًا طبعًا بل هو أقرب لوسائل الإيضاح، لذا لن نتوقف عنده كثيرًَا.
أشياء كثيرة جدًا انهارت في مصر. الكل يعرف هذا جيدًا، ومن الواضح بالفعل أننا في فترة مذهلة من فترات هبوط المنحنى للقاع أو الـ Nadir كما يقول الإحصائيون، وعلى الأرجح سيرتفع المنحنى ثانية لكن ليس في حياتي. الملاحظ أن الفن كان أول ما فسد.. فسد قبل الصحة والتعليم والثقافة والأمن.. يقولون إنه عند شراء مجموعة مأكولات بحرية فإن الكابوريا أول ما يفسد وتتصاعد رائحته. من الواضح أن الفن أول شيء يتلف في الجسد. هل السبب يتعلق بالفقر؟ هل يتعلق بالخوف؟ هل يتعلق بالافتقار للديمقراطية أو العدل؟. بصراحة لا أعرف. لا يمكن أن نزعم أن المناخ أيام قدماء المصريين كان ديمقراطيًا، وبرغم هذا قدموا لنا أسمى آيات الفن.
أعتقد أن الأمر يتعلق بمحصلة الحضارة نفسها. بالاتجاه الذي تتجه له العجلة. عندما تتجه لأعلى يصعد معها الفن، ونرى رأس نفرتيتي وقناع توت عنخ آمون وتمثال خفرع المذهل. عندما تنحدر نرى رجل قطونيل وتمثال التباع.
دعك من تراث القبح الذي يرثه أبناؤنا يومًا بعد يوم. عندما يصطاف الشباب في بيئة كهذه، والمفترض أن هذا ترفيه وترويح عن النفس
وعندما ترى الزبالة في كل ركن، وعندما ترى هذا المنظر حول إدارة تحسين البيئة والتجميل، فأنت تتعلم القبح وتفقد حاسة الجمال، ويصير ما تقدمه من محاولات فنية لغوصة أو عكًا.