وكيل النيابة الشاب غاضب. وكيل النيابة الشاب ينظر لساعته. وكيل النيابة الشاب في استقبال المستشفى ينتظر. وكيل النيابة الشاب لديه جدول أعمال مزدحم. هناك حالة طعن بسلاح أبيض يجب ان يكتب تقريره عنها، ولابد من وجود طبيب الجراحة.
طبيب الجراحة المقيم مشغول. طبيب الجراحة المقيم في ورطة. طبيب الجراحة المقيم يعمل في غرفة جراحات الطوارئ منذ أربع ساعات، حتى لم يعد يشعر بساقيه، وغرفة الجراحة تبعد عن الاستقبال مسافة عشر دقائق. جاءه أكثر من استدعاء كي يذهب إلى استقبال المستشفى بسرعة حيث ينتظره وكيل النيابة، لكنه بعصبية طلب من القادم أن يتريث.. بطن المريض مفتوح وصوت جهاز التنفس الصناعي لا يتوقف.
وكيل النيابة الشاب مغتاظ. وكيل النيابة الشاب يشعر أن سلطته تهتز..
عندما يصل الطبيب المقيم أخيرًا – بمعطف غارق في الدم – يلومه وكيل النيابة على تأخره، فينفجر الطبيب المقيم غضبًا.. لم يشتم وكيل النيابة أو يهنه، لكنه وجه له كلامًا من طراز: "عليك أن تشعر بمعاناة الآخرين.. الكل مشغول مثلك".. إلخ.. وكان يتمتع بصوت عال هز جدران المستشفى. سوء تفاهم مؤسف بين شخصين حاول كل منهما أن يؤدي عمله جيدًا.
وكيل النيابة ينصرف محرجًا شاعرًا بالإهانة. وبعد نصف ساعة يصل بوكس الشرطة ليقتاد الطبيب المقيم مكبلاً بتهمة الاعتداء على وكيل نيابة.
كانت هذه هي الحادثة التي وقعت عام 1989 تقريبًا، وكنت أنا طبيبًا مقيمًا في مستشفى طنطا الجامعي. بعد ساعات وصلت الأخبار أن الطبيب المقيم صديقنا محتجز في النيابة.. يجلس في غرفة ضيقة مصفدًا، بينما يمر عليه كل من في النيابة يغمزون ويلمزون ويشتمون.. تصاعد الأمر إلى العميد الذي وعد باتخاذ اللازم، ثم إلى نقابة الأطباء.
لا ندري كيف بدأ الأمر.. لكننا وجدنا أننا جميعًا نقف في ساحة المستشفى بالمعاطف البيض. مع الصمت الرهيب. العدد يتزايد ويتزايد.. الناس في الشارع يتوقفون لينظروا إلى الطوفان الأبيض الواقف.. قائد أمن المستشفى يخرج من مكتبه ويصيح طالبًا منا التفرق لكن لا أحد يستجيب. يصيح في عصبية: "طب ابعدوا عن سور المستشفى.. مش عاوزين الناس في الشارع يشوفوا المنظر ده !!"
صمت.. لا أحد يرد. بعض الأطباء الذين نعرف علاقتهم بأمن الدولة يظهرون بيننا متحمسين، يحاولون معرفة من صاحب الفكرة.. من المحرض؟
بعد نصف ساعة تصل سيارة تحمل العقيد – وقتها – أسامة المراسي الذي كان مسئولاً عن أمن الجامعة، وقد بدت الخطورة على ملامحه، ويجتمع اجتماعًا مطولاً في مكتب قائد الأمن. الإضراب يتزايد.. خلال ساعتين وصلت الأخبار لمستشفى المنشاوي بطنطا فأضرب الأطباء.. ثم امتدت الشرارة إلى مستشفى كفر الزيات وقطور.. عما قريب ستمس المحلة الكبرى.
لم أكن متحمسًا للإضراب المطلق. هناك أقسام مثل الولادة أو الطوارئ أو كشك محاليل الأطفال يجب أن تعمل مهما حدث، لكن الإضراب كان طاغيًا، والشعور بالإهانة لدى الأطباء كان عارمًا.. والشعور بأن هذا صراع إرادات كان المسيطر.
عند المساء بدا أن المشكلة تتفاقم، وبدا أن المارد خرج من القمقم. عاد لنا زميلنا محمولاً على الأعناق وأقيم له احتفال صاخب.
في ذلك الوقت لم تكن الشرطة ولا القضاء بهذه السلطة المطلقة، ولم يكن مفهوم (سادة وعبيد) قد ظهر بعد، وبرغم هذا ما كان صديقنا ليعود لولا (وقفة الرجالة) هذه.
عادت هذه القصة لذهني عندما سمعت عن قصة الطبيب الذي دخل في مشادة مع أمين شرطة. حدث هذا في المطرية منذ أيام. أعتقد أن الجميع قد سمعوا هذه القصة لكن لا بأس بأن نكررها. هذه القصة قد حكيت بأكثر من شكل على طريقة (تأثير راشومون) الشهير.
قمت بالبحث في جوجل عن التفاصيل فوجدت العناوين التالية:
من اعتدى على من بالضبط؟
أخبار مؤكدة أن الأمين اعتدى على الطبيب، وأنباء مؤكدة أن الطبيب اعتدى على الأمين. ولو كان الطبيب قد اعتدى فلماذا تعتذر الداخلية؟
تقول القصة إن د. أحمد سيد طبيب الامتياز فوجئ بوصول مواطن فجر الخميس، مصابًا بجرح سطحى فى الوجه، ويطالب بكتابة تقرير عن الإصابة. تبين أن المواطن أمين شرطة على طريقة حاتم.
مررت بهذا الموقف مرارًا عندما كنت طبيب امتياز. فجأة يمتلئ الاستقبال بالضباط ومعهم مريض.. وهم لم يأتوا لطلب العلاج بل لطلب التقرير، وهنا تأتي حالتان:
الحالة أ: عندما يكونون المعتدين، فيطالبونك بتقرير يثبت أن الضحية في حالة سكْر أو تحت تأثير المخدرات، وأن الإصابات أحدثها المصاب لنفسه.
الحالة ب: عندما يكونون هم أو قريب أو جار لهم من المعُتدى عليهم. يطالبونك بإثبات أن الإصابات تسبب عاهة دائمة، وتحتاج لعلاج أكثر من 21 يومًا. وهذا ينقل الأمر من جنحة إلى جناية، حتى لو كان ما نتكلم عنه خدشًا.
ما حدث مع دكتور أحمد هو الحالة (ب). لقد قال إن الجرح سطحي فانفجر الأمين في السباب ولوح بمسدسه واحتجز الطبيب، وهدده بتلفيق تهمة له، وجاء ميكروباص فيه 9 أمناء شرطة يقتادون الطبيب مع النائب الإداري للمستشفى لقسم المطرية.
شاهد الطبيب يحكي تجربته هنا.
القصة الأخرى المضادة هي أن الأمين اتهم الطبيب بأنه اعتدى عليه وكسر رجله. وقد حرر محضرًا بالواقعة. ويقول الخبر إن وزارة الصحة خاطبت الداخلية، لكن الداخلية قالت إن الموضوع في النيابة حاليًا!
طيب.. الطبيب بلطجي وفتوة، وقد جاءه أمين الشرطة البريء كعصفور يطلب العلاج فضربه الطبيب. الطبيب المثقف المتعلم تحول لوحش، وضرب أمين شرطة قوي البنية مدججًا بالسلاح، وكسر رجله!! لكن لماذا تعتذر وزارة الداخلية إذن؟ أليست صاحب حق؟
"أوضح مساعد وزير الداخلية للعلاقات العامة والإعلام، فى مداخلة هاتفية لبرنامج (انفراد) الذى يقدمه البرلمانى سعيد حساسين، على قناة العاصمة، قائلا: 'ما حدث بين الطبيب وأمين الشرطة جاء إثر مشادة كلامية بين الأطباء والأمناء، ومن ثم تطورت المشادة'، مشيرا إلى أن الأطباء اتخذوا الإجراءات القانونية، وتم تحرير محضر بالواقع. وتابع: 'نحن لا نقبل بالتجاوز، ووزارة الداخلية أعلنت أنها لا تحمى أى شخص يتجاوز مع مواطن، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية حيال الواقعة، ونأسف لهذا التصرف، والأطباء إخوتنا، واحنا حريصين أن العلاقات تكون طيبة مع الأطباء وغيرهم داخل المجتمع، كما أن الوزارة لا تستر على أى تجاوزات تصدر من أفرداها'".
قال د. هاني مهنى عضو مجلس النقابة العامة إن مدير أمن القاهرة ورئيس قطاع شرق ذهبا إلى المستشفى، واعتذرا للأطباء عما فعله الأمين وزملاؤه. وقال إن محامي النقابة العامة حرر محضرًا بواقعة اقتحام الأمناء للمستشفى واعتداء أحدهم على الطبيب، حمل رقم 2073 لسنة 2016 جنح قسم المطرية، مشيرًا إلى استمرار غلق استقبال المستشفى وإضراب الأطباء لحين تأمينه بالشكل المناسب. لماذا يعتذر مدير الأمن لأن طبيبًا بلطجيًا كسر ساق أمين شرطة عنده؟
على كل حال كلنا يعرف قصة التقارير الطبية المتبادلة هذه، وفي النهاية يتم الصلح أو التنازل عن القضية لأن من آذاك يتهمك بأنك من آذاه.
كتب د. هاني مهنى هذا البوست المؤلم على فيس بوك:
وهو بالطبع يشير إلى قضية شادي ومالك التي قلبت الدنيا على عقبيها لأنهما أهانا وزارة الداخلية. فماذا عن إهانة وزارة الصحة ونقابة الأطباء؟
كنت أفتش عن ذلك الخبر، عندما وجدت خبرًا آخر في نفس الشهر (11 يناير 2016) عن أمين شرطة تعدى بالضرب على طبيب العناية المركزة بمستشفى المنصورة الدولي
برضه كان الطبيب يحاول منع الأمين من دخول العناية المركزة لزيارة قريب له. أخذت الأمين العزة بالإثم مع عنجهية السلطة فضرب الطبيب، وقال الدكتور إبراهيم الزيات نقيب أطباء الدقهلية، إنه سوف يتم اتخاذ الإجراءات القانونية، ضد الأمين المعتدى على الطبيب محمد الصفتي، وهناك مجموعة من محاميي النقابة في الطريق لتحرير محضر بالواقعة.
هل وزارة الداخلية مولعة بضرب الأطباء؟ يبدو هذا واضحًا لأن سيل الكليبات لا ينتهي. هنا مثلاً.. وأحيانًا تقتل الصيادلة كما ترى هنا.
تزامنت هذه الأحداث مع تلك القصة المؤسفة لفيديو (الكبابيد) – ترجمة لفظة condoms – وهي دعابة عملية قاسية بالتأكيد. لم أحب ما رأيته خاصة مع استغلال سذاجة هؤلاء الجنود، لكني لم أر أن هذا يهين وزارة الداخلية أكثر من كل هذه التجاوزات التي نحكيها، والتي بلغ من كثرتها أن المرء لا يستطيع تذكرها جميعًا. كما يقول أحد البوستات على النت:
"امبارح بالليل شادي أبو زيد كان عنده 22 ألف فولور.. النهارده بالليل شادي عنده 112 ألف فولور.. آخر بوست كتبه شادي النهارده أخد 39 ألف لايك في ساعة". الناس تحب أن تتلقى الداخلية بعض الدروس.
وكما يقول باسم يوسف في تويتة:
موافق على كل حرف طبعًا. كل كبابيد العالم لن تهين الداخلية مثل خبر اغتصاب متظاهرة داخل مدرعة، أو فقء عين ناشط سياسي، أو قتل شيماء الصباغ وغيرها وغيرها بدم بارد. تسبب حاتم في تدمير جهاز الشرطة عام 2011.. وهاهو ذا ينطلق من جديد.