على ناصية شارع محب بطنطا يقفون.. مجموعة من طلبة المدارس الإعدادية على الأرجح، بصوتهم شبه الرفيع شبه الخشن، وحلفانهم بـ (وعهد الله). وجوههم قبيحة وأصواتهم قبيحة وكلماتهم أقبح. كلما مرت فتاة زنوها بعيونهم أو أهانوها أو – على الأرجح – تحسسوا جزءًا من جسدها. وطبعًا لا تهتم الشرطة بهذه التفاهات، بل هي تلاحق الناشطين السياسيين وبتوع شعار رابعة ورسامي الكاريكاتور فقط.
قال سائق التاكسي الذي يقلني وهو يغلي أمام المنظر:
ـ"أتخيل لو كنت أمشي جوار ابنتي قرب هؤلاء، أو كانت ابنتي تتقدمني ورأيت ما يفعلونه معها.."
بالفعل.. الشرطة لن تأتي كالعادة. هناك رقمان لمكافحة التحرش في المديرية لكنهما لا يردان أبدًا. ومن المستحيل أن يطالب هذه الضباع بالتهذيب، فلسوف يلعنون أباه وأمه وهم يضحكون. سيكون الخيار الوحيد هو أن يقتل اثنين أو ثلاثة منهم ويدخل السجن، أو يقتلونه. لا يوجد خيار آخر. أنت مضطر لأن تقتل أو تُقتل لتحتفظ أمام نفسك وأسرتك بصورة الرجل.
لم أعد أقود سيارتي منذ عامين، لذا كنت أركب في تلك الليلة جوار سائقي الدائم، وهو رجل ضخم الجثة لا يغري بالشجار معه. ضايقنا ميكروباص على الطريق السريع كاد يصطدم بنا مرتين. ثم أن السائق – وهو مراهق نحيل قليل الأدب لا يمكن أن تتجاوز سنه سبعة عشر عامًا – أخرج رأسه من النافذة وهو يسير بجوارنا وراح يشتم السائق شتائم بذيئة جدًا. تمالك سائقي أعصابه و استمر في القيادة فراح الفتى يصرخ:
ـ"مش عاوز تركن؟ اركن يا جبان !!"
رأيت سائقي وقد احمر وجهه واحتقن، وأوشك بالفعل عدة مرات على أن يركن السيارة على يمين الطريق لولا أنني منعته. فقد لمحت في عينيه القتل.. الفتى لن يتحمل ضربة (بونيه) واحدة لكنه ما زال يلح راغبًا في الانتحار.
خطر لي إن الاستفزاز قد يبلغ حدودًا غير مسبوقة، مما يجعل الشخص يفقد أعصابه ويتهور. عندئذ لا أستطيع ان ألقي عليه اللوم بالكامل. لابد من أن تعفو المحاكم عمن يقتل عند درجة استفزاز معينة.
ثمة مثال شهير عندما فقد اللاعب الخلوق زين الدين زيدان أعصابه في كأس العالم 2006.المدافع الإيطالي ماتيرازي استفز زيدان وشتم أسرته قائلاً: "أريد أمك وأختك"، فتراجع زيدان ثم وجه روسية ممتازة لصدر ماتيرازي أسقطته أرضًا، وقد كلفت هذه الضربة زيدان أن طُرد من الملعب وفقده فريقه في مباراة بالغة الأهمية. شاهد هذه اللقطة الشهيرة هنا.
في مصر فقد ثابت البطل حارس مرمى الأهلي العملاق أعصابه، عندما مر أمام حشد من المشجعين، فأطلق أحدهم سبة ضده.. نظر له ثابت نظرة نارية وتجاهله، هنا شتم المشجع أم ثابت بسبة قبيحة شهيرة. فقد حارس المرمى أعصابه واندفع ليلكم المشجع، وكانت قضية إعلامية تكلم فيها الجميع عن حارس المرمى البلطجي.
ننتقل إلى النجم العالمي إريك كانتونا لاعب الكرة الفرنسي الأسطوري الذي لعب مع مانشستر يونايتد البريطاني. أحرز الكثير جدًا من الأهداف ووصل بناديه إلى قمة الدوري عامي 1993 و1994. لكنه اشتهر بعصبيته الشديدة.
عام 1995 فقد كانتونا أعصابه عندما استفزه مشجع من نادي كريستال بالاس. فاستدار ووجه له لكمة كونج فو صارت شهيرة جدًا في الصحافة الرياضية العالمية. شاهد اللقطة هنا.
وحدثت فضيحة. وفي المؤتمر الصحفي جلس كانتونا ليقول بلكنته الفرنسية عبارته الشهيرة التي تهين الصحفيين:
ـ"عندما تطارد النوارس سفن الصيد، فهذا لأنها تحسب أنها ستلقي بالسردين"
ثم غادر المؤتمر. شاهد اللقطة هنا. وقد منع من اللعب لفترة وخسر مانشستر يونايتد الدوري بسبب فقده.
هناك قصة جميلة من مختارات هتشكوك قمت بعرضها في مقال سابق، وأرجو أن تسمح لي بأن أعيد سردها هنا:
الليل حار رطب، والبعوض يحوم حولك ثم يلتصق بالعرق فيموت غرقًا، بينما المحاسب سهران حتى هذه الساعة المتأخرة يجمع مصفوفة طويلة من الأرقام.. كلما قارب النهاية أخطأ فعاد يبدأ من الأول، والسبب هو ذلك النفير اللعين.. نفير سيارة تحت نافذته لا يتوقف لحظة. خرج أكثر من مرة وصاح طالبًا من سائق السيارة أن يكف بالله عليه، فلديه الكثير من العمل الذي يجب أن يسلمه صباح غد.. توسل.. هدد.. تكلم بالعقل.. لكن سائق السيارة - وهو فتى متأنق سمج يلمع شعره بالفازلين - ينظر له ثم يضغط على النفير أكثر ويضحك..
هنا تأتي اللحظة.. يثب المحاسب إلى مكتبه فيلتقط مزهرية ثقيلة ضخمة، ومن دون أن يعرف ما يفعله يقذف بها بأقصى قوة نحو رأس الفتى الواقف جوار سيارته.. طبعًا لتتحول رأس الفتى إلى كتلة دموية ويموت فورًا.. يتهاوى المحاسب على ركبتيه دامعًا نادمًا..
تبدأ محاكمة القاتل، وبما أننا في بلدة أمريكية فهم يعملون بنظام المحلفين الذين يجتمعون في فندق لا يخرجون منه ويقضون وقتهم في مناقشة وقائع القضية. يأتي يوم النطق بالحكم فينتظر المحاسب في رعب معرفة مصيره.. يقول رئيس المحلفين المرهق منتفخ العينين: "لقد توصلنا إلى أن المتهم ليس مذنبًا!".
براءة.. يغادر المحاسب المحكمة وسط التهاني، ويبحث عن زوجته طويلاً لأنه كان يتوقع أنها تنتظره.. في النهاية تلحق به بالسيارة وتعتذر له بشدة.. كان عليها أن تستبدل بطارية السيارة التي نفدت. ولماذا نفدت؟.. تقول في خبث: "ظللت طيلة الليل أدق النفير تحت نافذة الفندق الذي يسهر فيه المحلفون لاتخاذ قرارهم!"
كما قلت لك: أحيانًا يبلغ الاستفزاز درجة لا يمكن تصورها إلا بمعايشتها، وكما يقول المثل الشعبي على لسان المسمار: "لو كنت تعرف الدق اللي على راسي كنت عذرتني".
انطباعي العام هو أننا نمر بدرجة استفزاز غير مسبوقة في كل شيء. والدولة تتعامل بدرجة من العناد الواضح أو سياسة (والنبي لنكيد العزال) كما يقول أحد المعلقين البلغاء على النت. في كل يوم يجعلون المواطن أقرب إلى الجنون، وأقرب إلى عمل أي شيء دون تفكير في العقاب. عندما يحدث الانفجار لن يقدر أي كاتب أو داعية أن يعيد الشياطين التي ستخرج من صندوق بندورا. بالتأكيد سيتجاوز الأمر نطحة بالرأس في الصدر.