كتبت في مقال سابق عن دهشتي البالغة بين إنفاق مذهل على حلقات مقالب مثل برنامج رامز جلال، وبين فقرات إعلانية لا تكف عن تسول المال لمشروعات طبية. كل جهات مصر العلاجية تطلب الصدقة من المشاهدين. صدقة من أجل العلاج.. من أجل تمويل مستشفى جديد.. إلخ.
أي أن العلاج في مصر يعتمد على سياسة أم عفاف التي تقف جوار المصرف أو على باب المطعم حاملة طفلة سقيمة، وتنظر لك في توسل وذلة، مرددة: "كل سنة وانت طيب.. مفيش حاجة للعيّلة دي؟".
كان هذا يذهلني. فلماذا لا تنال المستشفيات جزءًا من الملايين التي تنفق على الترفيه؟. قلت إنني أشعر كأن مصر الفلاحة الرشيقة الفارعة، تلبس اليوم ثوبًا ممزقًا، وتمد يدها مرددة: عشانا عليك يا رب..
اعترضت كذلك على بذخ الإعلانات وتكلفتها العالية، حتى خيل لي أنهم يجمعون التبرعات لعمل إعلانات جديدة. وقتها وجدت تصريحًا أراحني، قال فيه مدير مستشفى سرطان الأطفال 57357 إنه إذا صرفت خمسة قروش على الإعلان فإن المستشفى يحصل بعدها على خمسين جنيهًا تبرعات.. هذا معناه حسب كلامه أن القرش يجلب ألف قرش. هكذا نجد أن هذه هي السياسة الوحيدة الفعالة حاليًا، وأنا أعمل في مستشفى مجاني وأعرف كم مرة استفاد المرضى من عطاء (فاعل خير).
كنت أنوي الابتعاد عن هذه المنظومة عامة، لكن خطابًا مؤثرًا وصلني من أستاذ طومان باي الجمسي، ومن أسيوط بالذات التي أحمل لها قصة حب خاصة، لأني زرتها عدة مرات. يقول أستاذ طومان إنه يتكلم عن معهد أورام أسيوط "الذي يخدم كل أهل الصعيد باعتبار ما جرى عليه عرف الصعيد بالذهاب لمدينة أسيوط باعتبارها تتوسط كل محافظات الصعيد، علاوة علي أنهم يعتبرون أنفسهم وسط أهلهم بحسب العادات والتقاليد، ولأن مدينة أسيوط هي الرائدة طبيا وجامعيا بين كل محافظات الصعيد ولا نبالغ لو قلنا أنها تأتي بعد القاهرة والأسكندرية.."
يواصل الكلام عن المعهد فيقول: "هذا المعهد مجهز وقد حدثت بعض التجديدات به غير أنه ينقصه الكثير من الأجهزة الحساسة والفاعلة بمجال علاج الأورام عافانا الله وإياكم شر ويلاتها..غير أننا لا نخفي سيادتك قولًا إن احتياجات علاج الأورام تحتاج دائما إلى المزيد والمزيد من غرف مجهزة بعناية خاصة، وزيادة بعدد الأسرة وبنوك دم وغرف معقمة، وطاقم طبي يحتاج دائما الي استقطاب ذوي الخبرة العالية والمشهود لهم، وجل ما نسعي إليه بداية هو تخصيص رقم علي أي من شركات المحمول الثلاثة تتم من خلاله التبرعات من الرسائل علي غرار مصر الخير والأورمان ورسالة و57357 وخلافه ولهذا المطلب أيضا متطلبات من وجود رعاة من الشركات لرعاية الحملة الإعلامية والإعلانية وغيره مما سعادتكم به أعلم منا.. وإلقاء قليل من الضوء علي المعهد ودوره والمساحة الجغرافية التي يخدم بها الملايين من سكان هذه المنطقة الشاسعة..."
"ومن الممكن أن نبدأ قبل رقم التخصيص بتولي مبادرة لتوفير نواقص المعهد من الاجهزة الحيوية لاحتياجاته، سواء بتكفل الشركات الاستثمارية مثلا بتوفير جهاز من شركة وآخر من أخرى وبجمع تبرعات لشراء هذه الأجهزة وسنسرد لكم مبدئيا أهم الأجهزة الناقصة..."
"نحن بصدد فتح حساب بنكي باسم المعهد لتلقي التبرعات، وهناك بالفعل أمام السيد محافظ البنك المركزي طلب بذلك ولكنه رهن احتجاز الغرف المكتبية والقرارات الحكومية متناهية البطء والبيروقراطية.. نحتاج لفك الحظر عن هذا الطلب..."
"نتحدث كمفوضين عن أهل الصعيد من أبناء مصر المهمشين والمنسيين.. فليس لمعاناتهم بأي أمر أو مستجد من مستحدثات الحضارة ومتطلبات معاناة الحياة، إلا التوجه لوجه العلي القدير فهم ليس لهم من حظ أو نصيب من اهتمام المسؤولين أو الإعلام إلا التهميش وطي أحلامهم وأوجاعهم طي النسيان.. فهم قلما تكون بأرضهم قضية تشغل بال الرأي العام وهذا ليس لأنهم لا يستحقون، ولكن لأنهم لايجيدون منمقات الإعلام.. أحلامهم كثيرة وأوجاعهم أكثر "
ثم ينتقل إلى وصف احتياجات المعهد. والقائمة عندي وهي تتكون من ميكروسكوب متعدد الرؤوس Multi-head microscope وجهاز آشعة عادية متحرك وجهاز صدمات كهربية. ذكر أسماء الشركات لكني لن أذكرها هنا طبعًا حتى لا تكون دعاية، ولأن هذه الأمور ستخضع بالتأكيد لمناقصات وعروض أسعار أو ما يثبت أن هذه الشركات هي الوكلاء الوحيدون.
طبعًا أوافق تمامًا على عرض هذا المطلب. وفي النهاية لدي أرقام هاتفية يمكن لمن شاء الاتصال بها، أو دراسة الموضوع قانونيًا وماليًا. أعتقد أن شركات الاتصال ستظفر بقدر لا بأس به من الدعاية لو خصصت رقمًا كهذا، خاصة أن المال لا ينقصها، وخاصة أن الجهود الذاتية تظل هي الحل الأفضل حاليًا مع مشاكلنا المالية المتفاقمة. من الواجب أن نعطي الصعيد ما يستحق ولا ينصب جل اهتمامنا على المشروعات المدللة التي حصلت على ما يكفي من التواجد الإعلامي.
هناك قاعدة ذهبية تعلمتها، هي أن أحدًا لا يهتم بهذه الأمور والمناشدات بتاتًا، وأن المقالات ليس لها تأثير على الإطلاق، وإنما الأمر محكوم بخلطة خاصة من التألق الدعائي والمصالح المشتركة. لكني فعلت ما أستطيعه، ولربما تبرهن لي الأيام على أنني مخطئ.