AP |
منذ أعوام كنت أسكن في الرياض مع صديق تونسي. لو كان لي أن أحكم على شعب كامل من شخص واحد، لكان التونسيون أرقى الشعوب العربية وأكثرها ثقافة وأمانة. هنا طبعًا خطأ التعميم وهو من أخطاء المنطق الشهيرة، لكني انبهرت بموقف معين منه. حكى لي يومًا عن عادة سخيفة معينة لدى الفلاحين التوانسة البسطاء فضحكنا كثيرًا، وفجأة بدا عليه ندم كبير واعتذر عما قال، وطلب مني أن أقسم على أنني لن أحكي عن هذه العادة لمخلوق، فهو لا يتحمل فكرة أن يسخر أحد من شعبه، وقد بررت بقسمي كما ترى. أذكر راكبًا جزائريًا جلس جواري في الطائرة ذات مرة، وراح يعب النبيذ عبًا ثم قال لي بأنفاس تفوح بالخمر: "لا تعتقدنّ أن الجزائريين مثلي.. هك!.. إنهم شعب محترم متدين.. هك.. أنا الفاسد الوحيد!". حتى هذا السكير احتفظ بالغيرة على وطنه.
تعودت كلما سافرت للخارج أن أتعامل برقي وتحضر مبالغ فيهما (لست بهذا الرقي في الحقيقة طبعًا)، لدرجة أن أهل البلد أنفسهم يندهشون لأنهم لا يتعاملون بهذه القيود. أكون دقيقًا صارمًا في مواعيدي وأحافظ على قواعد السلوك، وأداعب الأطفال والكلاب الصغيرة، وآكل بأناقة برغم أنني أفترس الطعام افتراسًا كالوحوش وأنا في مصر. لا أرى افتعالاً في هذا أو أنه ممارسة لعقدة الخواجة. كل ما هنالك هو أنني أملك غيرة طبيعية على اسم مصر، وأتصرف كسفير يمثل البلد كله. أرسل لي صديق إسباني يقول إنه انبهر بمدى رقي المصريين وتحضرهم بعد ما عرفني، ويعتذر عن الانطباع الخاطئ السابق. هذا هو ما أريده.. فليقولوا: كان هنا رجل مصري وكان مهذبًا متحضرًا...
هي نفس نظرية الصديق التونسي الذي لا يريد أن يسخر أحد من عادة يمارسها الفلاحون التوانسة البسطاء في بلده.
يحكي حسين قدري في كتابه الممتع (مذكرات شاب مصري يغسل الأطباق في لندن) الذي كتبه في السبعينيات، عن شاب مصري اسمه فالح كان يعمل معه في ذات الفندق. وجد هذا الشاب يقف وسط حسناوات بريطانيات يوشكن على الموت ضحكًا، وهو يلعب دور البلياتشو معهن، ثم قال لهن بإنجليزيته الكسيحة إنه يتمنى أن يكون لندن – يقصد أن يكون بريطانيًا – لأن المصريين أناس منحطون. اغتاظ الصحفي المصري وشتم الفتى ومسح بكرامته الأرض أمام الفتيات.
هذه هي الغيرة على مصر. حتى وأنت لا تطيقها وتتمنى لو فارقتها. مثل قول صلاح جاهين الجميل:
باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
وباحبها وهي مرمية جريحة حرب
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء
الفكرة هي أن معظم الناس حاليًا لا يتمتعون بهذه العاطفة على الإطلاق. مصر تتلقى الإهانات اليومية بلا توقف وصارت مادة ثابتة للتهكم في الصحف العالمية بسبب وقاحة وحماقة وغباء البعض. يهينونها بلا توقف وبحماس شديد، حتى إنني كتبت مرارًا: "حرام عليكم.. ماذا فعلت لكم مصر من أجل هذه البهدلة؟". أسمع الأغنية الشهيرة: "ما تقولشي ايه اديتنا مصر".. أسمعها: "ما تقولوا ليه بتهينوا مصر؟"
فضحونا باختراع الكفتة الذي أثار سخرية العالم وأضحكه، واعتاد باحثونا أن يقابلوا في المحافل الدولية من يسألهم عن علاج (الإيدز – الفيروس سي – الحصبة – الملاريا) الذي ابتكره البروفسور عبد العاطي والذي أذاعه من منبر القوات المسلحة.
بعد هذا نسمع عن موضوع تزوير لعبة كرة الجرس، عندما أرسلنا بعثة مبصرين على اعتبار أنهم مكفوفون إلى بولندا للمشاركة في البطولة الدولية. هؤلاء كانوا يرغبون في التسلل للخارج ودفع كل منهم خمسين ألف جنيه كي يوضع اسمه في القرار الوزاري. هذه فضيحة اخرى تكلم عنها العالم.
بعد هذا تفاجأت ماليزيا بأخبار المقرئ النصاب الطالب الأزهري عبد الرحيم راضي الذي زعم أنه كان الأول في مسابقة القرآن التي أقيمت هناك. هذا الفتى عبقري أو مجنون تمامًا خلق لنفسه عالمًا افتراضيًا كاملاً.. يكتب خطوة بخطوة تفاصيل سفره لماليزيا على الفيس بوك، فيلتقي به تامر أمين ليصف له كيف رفع علم مصر عاليًا، وعُزف السلام الجمهوري، فغني الماليزيون معه. لما طلبه الإبراشي ليكون ضيف البرنامج تظاهر بالمرض لأنه عرف أنه سيقرأ أمام مقرئين كبار سوف يكتشفون جهله بالقراءات على الفور. أعلنت ماليزيا أنها لا تعرف اي شيء عن الفتى، وان المسابقة تقام في شعبان فقط وليس الآن. وطرد من الأزهر بعد فوات الأوان.
وكأن هذا لا يكفي، نجد الأخت الصحفية التي تفضحنا في مصر في المؤتمر الصحفي للأوسكار، وتثير ضحك ليوناردو دي كابريو وأليخاندرو إيناريتو بأسخف سؤال في العالم.. ماذا عن أول أوسكار؟ وهي تريد قول: ما هو انطباعك عن أول أوسكار تناله؟. لكن لغتها الكسيحة جعلتها عاجزة عن ذلك. وفي النهاية التقطت لنفسها 60 صورة جوار تماثيل شمع باعتبار هذه هي (التغطية)، كأن هذه صفحتها الخاصة في فيس بوك. تردد اسم مصر – بالسخرية – في أكثر من موقع غربي، وظهر الموقف في إعلان طريف للسيارات الفولكس. وكتب غربيون يلومونها على أنها لم تضيع ساعة واحدة تعد فيها سؤالاً معقولاً بعد ما تجشمت جريدتها نفقات إرسالها. كان اعتذارها مؤثرا بحق لكن بعد وقوع الفأس في الرأس.
حكى الناقد العظيم سامي السلاموني عن ناقدة اعتادت أن تذهب على حساب مجلتها لمهرجان كان كل سنة، فتقضي الوقت في التسوق في الشانزليزيه، ثم تهرع لكان قبل انتهاء المهرجان بيوم لتأخذ بعض المطويات من أكشاك شركات الإنتاج، تكتب عنها في مصر لدى عودتها دون أن تكون قد رأت فيلمًا واحدًا.
وماذا عن المرأة المسكينة البسيطة التي تقول: "شات يور ماوس أوباما" التي جالوا بها العالم العربي كله ليتسلى الناس بها كأنها فقرة سيرك. ألم يشعر أحد بالغيرة على اسم مصر فيمنعها؟ وماذا عن مشاهد اغتصاب المراسلة الاسترالية لارا لوجان ومراسلتين أخريين نسيت اسميهما؟.. هذه المشاهد التي تملأ مواقع الإنترنت الغربية.
مؤخرًا ظهر فيلم فيديو المفترض أنه يظهر عملية حقيقية قام بها رجال الداخلية في بني سويف لتخليص رهينة. ضحك الناس كثيرًا وهم يرون التقليد البائس لفيلم (المهمة المستحيلة) لتوم كروز. وتمثيل رجال الشرطة الشبيه بأفلام الأكشن، وكيف يجري رجال الشرطة في الصحراء ثلاثة كيلومترات مع أن معهم سيارات دفع رباعي. ويتم الاقتحام لنكتشف أن الخاطف أضعف مرارًا من المخطوف وغير مسلح. ويطرق برأسه خجلاً ويعترف بجريمته. ماذا عن الغربيين الذين رأوا هذا الفيلم؟
الأسوأ هو الطريقة الجديدة التي نتعامل بها مع هذه الفضائح المنهمرة كالسيل. طريقة: ليقولوا ما يقولونه.. منذ متى نهتم برأي الغرب فينا؟... احنا كده بقى واللي مش عاجبه.
جميل.. استمروا في إهانة مصر والإساءة لها، ثم تساءلوا عن أسباب عدم انتماء الأجيال الشابة للبلد. مصر في حالة سيئة فعلاً فلا تضيفوا الفضيحة إلى الانهيار من فضلكم. نريد بعض الكبرياء أثناء السقوط.