يمكنك أن تقول أي شيء عن مصر، لكن لا يمكنك أن تتهمها بالإملال أو الرتابة أبدًا. في كل أسبوع هناك مفاجأة شائقة لم نتوقعها، وفيض لا ينتهي من الكلام في الفضائيات والصحف والوسائط الاجتماعية. يمكنك أن تعد مفاجأة كل أسبوع .. جنينة.. ريجيني... تيران... حتى إن بعض النشطاء صاروا يطلقون عليها (مدينة البط). أنا أتطلع في شوق لمفاجأة الأسبوع القادم، فقد انتهى الكلام عن تيران وصنافير، وكوّن كل واحد رأيه، وقيل كل شيء ممكن. سأكتفي فقط بذكر بعض النقاط:
- لست متخصصًا في ترسيم الخرائط ولست ذا خلفية سياسية. أنا فقط صاحب انفعالات. وما أستطيع قوله هو ان إعلان إعطاء الجزيرتين للسعودية بهذه الطريقة صادم فعلاً، ومن دون تمهيد إعلامي أو تحكيم دولي، أو عرض شامل للوثائق. نفس الطريقة الأبوية التي وصفتها من قبل: "اجتماعات ومحادثات وجلسات مغلقة ومكالمات هاتفية تخبرنا بها الصحف .. لا تعرف أبدًا ما دار فيها.. المهم أن هناك من اجتمع ومن تكلم هاتفيًا.. والنتيجة هي أنك تمر بحالة أبوية فريدة.. أنت مجرد طفل يلهو في الصالة بينما أبوك يجلس في الصالون مع أصدقائه الكبار يقولون كلامًا لا تفهمه أنت ومن العيب أن تحاول أن تعرفه..". كان هذا في مقال قديم اسمه (بلدهم يا عم) كتبته أيام مبارك وتجده هنا. لكن الأمر ليس مزاحًا هذه المرة.. نحن نتكلم عن أرض مقدسة شربت دماء آبائنا. ليس من يتساءل خائنًا لوطنه كما يزعمون. بل هو وطني أصيل حريص على كل ذرة تراب مصرية.
- لست متخصصًا في ترسيم الخرائط ولست ذا خلفية سياسية، وقد شعرت بحيرة بالغة بين آراء أشخاص أحترمهم مثل عمرو حمزاوي الذي قال:
اقرأ الخبر كاملاً هنا. ولا شك أنه موقف شجاع، فقد قال رأيه المخالف للتيار السائد في الشارع، برغم أنه محسوب في معسكر المعارضة، لكنه قال ما يؤمن به وهو حر:”أسجل ذلك من موقع التمييز بين نهج المزايدين وبين رفضي للسلطوية الحاكمة ولسياساتها الفاشلة ومطالبتي بمحاسبتها على المظالم والانتهاكات، كانت شائعات التنازل عن حلايب وشلاتين وقت الرئيس السابق محمد مرسي ظالمة، وادعاءات التنازل عن السيادة المصرية على صنافير وتيران أيضا ظالمة“
هذا رأيه وأنا أثق في نزاهته وشرفه. لكن الغريب حقًا هو الصراع المحموم لدى دولة كي تثبت أن جزءًا منها لا يخصها، وقد سهر المؤيدون ليلاً ونهارًا يفتشون في الوثائق عن شيء يثبت أن الجزيرتين ليستا لنا. هذا تطور غريب. وكما يقول معلق ذكي: "يتعاملون بطريقة: تقبلوا على نفسكم جزر حرام؟". لاحظ المعلق كذلك إنها سابقة تاريخية فريدة. فاليمين المتطرف في كل الأنظمة يسعى لضم أراض للوطن بلا حق، كما فعل النازيون ونظام فرانكو، لكننا هنا نقابل يمينًا يقاتل بشراسة ويبكي بحرقة كي يتنازل عن جزء من الوطن.
وفي الوقت نفسه ينفي أشخاص راجحو العقل أثق برأيهم كون هذه الجزر سعودية. مثلاً هذا الكلام الناري لإبراهيم عيسى. في الوقت نفسه هناك من قالوا إن الجزيرتين ليستا مصريتين ولا سعوديتين أصلاً، مثل أستاذ التاريخ الحديث د. فطيم فريد الذي يشرح وجهة نظره هنا. وهناك من غير رأيه خلال أربع وعشرين ساعة بين الحماسة الوطنية الشوفينية التي تؤكد ان الجزيرتين لنا وترابهما شرب من الدم المصري، إلى العقلانية الباردة التي تؤكد أن الجزيرتين ليستا لنا. شاهد اللواء عبد المنعم سعيد هنا. ما تفسير تغيبر الرأي خلال 24 ساعة؟ سيف المعز أم ذهبه؟
ما رأيي وسط هذا كله؟ أعتمد على منطقي فقط، فأسأل كيف تدفع السعودية ثمنًا لأرض لها منذ البداية؟ وكيف دافع جنودنا بدمهم عن أرض ليست لهم؟. ولماذا لم تشتك السعودية يومًا من التعدي الاسرائيلي على أرضها؟. كما أنني أنصحك بمشاهدة هذا العرض بالغ الاحترافية والإلمام الموسوعي من د. نائل الشافعي. لو كان الرئيس المصري يعتمد على عقول كهذه لصرنا السويد أو على الأقل ماليزيا خلال خمسة أعوام. - على العموم تسبب الموضوع في تشوش هائل في المفاهيم، وكما لاحظ أحد الظرفاء في فيس بوك: "الأوضاع اتغيرت يا برايز.. دلوقت الإخوان بيشيروا خطابات عبد الناصر التي يعلن فيها أنه لن يتنازل، وثوار يناير بيشيروا كليبات مبارك التي يرفض فيها التنازل عن طابا باعتبارها ابنًا له، والسيساوية بيشيروا تويتات عمرو الحمزاوي اللي كانوا بيكرهوه عمى!!". وعلى كل حال حدث مزيد من الانقسامات والشروخ في المجتمع المصري. قضية جدلية أخرى تضاف لـ (هل رابعة مذبحة أم عملية احترافية؟).. (هل تفريعة القناة ترعة أم قناة سويس أخرى؟).. (هل 30 يونيو ثورة أم انقلاب؟).. (هل مرسي فاشل أم أفشلوه؟). لكن الملاحظ أن نسبة الرافضين والمصدومين عالية هذه المرة.
- كتبت من قبل إن قناة الجزيرة مغرضة موجهة.. أؤكد أنها (صارت) كذلك ولم تكن في البداية، برغم إنني لست من مؤيدي النظام ومن يقرأ مقالاتي يعرف هذا جيدًا. اعتدنا مؤخرًا أنه لو لدغت بعوضة مواطنًا أو عطس مواطن، فإن الجزيرة تخصص برنامجًا كاملاً عن التلوث في مصر أو تدهور الخدمات الصحية. ماذا قالت الجزيرة عن موضوع الجزيرتين والموقف الغاضب في الشارع المصري؟ ولا كلمة.. أو مجرد خبر عقلاني هادئ، بينما في ظروف أخرى كانت ستقيم حفلاً لعدة أيام. السبب طبعًا أنها لا تريد مضايقة السعودية بأي شكل. كل الإعلام متحيز، لكن درجة التحيز تتباين إلى أن تتحول وسيلة الإعلام إلى طرف أصيل في الصراع.
- هي نفس الضجة التي أثيرت حول حلايب وشلاتين أيام مرسي، وفيما بعد 30 يونيو كانوا يقبضون على شخص يقولون أنه إرهابي، فيزعمون أنه يحمل قنبلة وخارطة مصر من دون حلايب وشلاتين!!.. كأنه يجب أن يحمل معه خارطة لنواياه وهو ذاهب لتفجير نفسه.. كانت إشاعة ظالمة، ولكن قدر لها أن تزدهر وأن تجد من يروج لها. ترى لو كان برنامج باسم يوسف مستمرًا فهل كان سيقدم أغنية مثل (قطري حبيبي الأخ الأصغر) هذه؟ الحقيقة أن مرسي كان سيء الحظ فعلاً، ويمكنك أن ترى هنا الفارق بين تقبل نفس القارئ لخبرين من ذات الطراز برغم أن الخبر الأول كاذب:
- مهما كان التخريج الجغرافي أو التاريخي أو القانوني لهذا كله، فمن المؤكد أن التوقيت بالغ السوء. بلد في ورطة اقتصادية قاتلة، ويتحدث رئيسه بشكل علني عن الموافقة على بيع نفسه لمن يريد، كما في هذا الكليب. عندما يعلن هذا البلد فجأة عن بيع جزيرتين أهميتهما الاستراتيجية غير قابلة للمناقشة، ومن دون أي تمهيد مسبق. فماذا علينا أن نعتقد؟. أحيانًا أعتقد أن هناك في الرئاسة مستشارًا ذا ميول إخوانية واضحة لأنه يسعي لإسقاط النظام بحماسة عبقرية. أو هو مستشار من جماعة (آسفين يا ريس) مهمته أن ندرك كل يوم ان مبارك لم يكن سيئًا للحد الذي حسبناه.
- أخيرًا يتلخص الأمر في كلمة قالها لي صديق عزيز: "مش عاوز أسمع حاجة تاني ولا اشوف نشرات أخبار.. عاوز أفضل أطرش شويه وبعدين أموت!". يبدو أنه توصل بالفطرة لما توصل له الشباب الوجوديون في الستينيات، عندما كانوا يواجهون مهازل المجتمع بالقييء. لا أدري لماذا لا يرى نواحي التسلية الشائقة في كل هذا الذي يحدث؟ فلننتظر مفاجأة الأسبوع القادم في شغف.