الكل يتساءل عن مصدر هذا العكاز، لكنني وعامر وعائشة تبادلنا نظرة فهم. هذا العكاز مألوف جدًا .. وابتعدنا عن الزحام والقوم الذين لا يفهمون شيئًا. قال عامر:
ـ«العجوز التي كانت تتوكأ على عكاز ثلاثي».
قلت بصوت مبحوح:
ـ«يمكن بسهولة استنتاج ما حدث، العجوز التي زارت صفوت كانت لمياء، وكانت تدفعه للشك من ثم الارتماء في أحضانها.. أعتقد أن لاميا كانت تملك القدرة على تغيير الشكل shape shifter ..».
كنا نفكر وابتعدنا شاعرين بأن رؤوسنا تزن عدة أطنان ..
ليلة سوداء تنتظرني، لكن عليّ قبل كل شيء أن أعرف أين ذهبت لمياء. لابد من مواجهتها بما نعرفه، وعليها أن تعطيني تفسيرًا واضحًا.
قال عامر لاهثًا:
ـ«القصة مريبة غريبة، لكن تبقى حقيقة أنك لن تستطيع أن تقول للشرطة إن لاميا التي لعنها زيوس هي القاتلة».
ـ«أتمنى أن أرى وجوههم وأنا أخبرهم بذلك».
ـ«سوف تمرح كثيرًا إلى أن تصل سيارة مستشفى المجانين طبعًا».
لحقت بنا عائشة، وهي تلهث من مكافحة الأوحال، ثم تأبطت ذراعي بحركة تلقائية راقت لي جدًا، ونظرت لي بعينيها الطفوليتين اللعوبين وقالت:
ـ«أنا ذاهبة إلى تل بسطة غدًا .. ذلك التحقيق اللعين. هل تأتي معي؟».
قلت ضاحكًا:
ـ«أنا منافس ووغد .. هل نسيت؟».
ـ«لكنك صديق .. لا أعرف من أذهب معه سواك فليست مهمة فتاة وحيدة .. تعال نمض يومًا لطيفًا. لكنك لن تسرق كتاباتي طبعًا».
ـ«سأحاول .. ظننتك تعملين في الحوادث فقط».
ـ«أنا في نظر رئيس التحرير مسئولة عن أي شيء في الشرقية .. قل له إن هذا ليس عملي، ولتر كيف يكون رد فعله الرقيق».
عندما عدت لبيتي أعددت لنفسي وجبة ساخنة، واستحممت، ثم رحت أتصل بكل من يعرف لمياء.. هاتفها لا يرد، ولا أثر لها. أين هي بالضبط؟
اتصلت بمكتب الجريدة الذي تعمل فيه، فجاء صوت فتاة ملول ناعسة تقول:
ـ«لمياء لم تعد هنا ..».
ـ«هل تركت عنوانًا؟».
قالت الفتاة بعد تفكير:
ـ«طلبت نقلها لمكتبنا في الإسكندرية .. تم هذا منذ أسبوع .. غريب ألا تعرف هذا ما دمت تقول إنك صديق قديم .. ».
ـ«لم تودع أحدًا أو تقل شيئًا».
أضافت الفتاة وهي تتثاءب وعلى الأرجح تلعب في أصابع قدمها:
ـ«كانت تتحدث عن الذهاب لليبيا .. لديها أقارب هناك. سلام».
ووضعت السماعة، بينما شعرت أنني دست على سلك كهربائي.. لم تكن لمياء موجودة بتاتًا مع جريمة القتل الأخيرة. كانت في الإسكندرية وعلى الأرجح هي هناك منذ مات صفوت. ربما لأن صدمة وفاته كانت قاسية جدًا أو لأنها بدأت تميل له، أو – ببساطة – هي قتلته وتفلت من شكوكنا، لكن كيف اقترفت آخر جريمة؟. ربما لا تحتاج لاميا للتواجد المادي الفيزيائي مثلنا. ربما تخترق المسافات…
رأسي يوشك على الانفجار …
********************
بوباسطي ..معبد الإلهة باستت .. (القطة بسبس بلغتنا) .. هذا معبد ضخم من معالم الزقازيق المهمة جدًا، صار اليوم أنقاضًا للأسف .. الفراعنة كانوا ينظرون للقط في إجلال، ويرون فيه مزيجًا من الغموض والرهبة والسحر.
تل بسطة .. عاصمة مصر في الأسرة 22 عهد الملك شيشنق الأول.. عندما كان الناس يأتون بالقارب عبر فرع النيل لينشدوا ويقدموا القرابين ويحتفلوا ويشربوا كميات هائلة من النبيذ كما قال المؤرخون الإغريق … الخليط المبهر من آثار الفراعنة و آثار الهكسوس.. آثار الدولة القديمة وآثار الدولة الوسطى .. ثم تدمير الفرس الكامل لهذا كله. كانت تل بسطة كذلك بوابة الشرق للقادمين من سيناء، لذا شرفت بعبور الأسرة المقدسة: العذراء مريم ووليدها المسيح.
وعلى الجانب الغربي من التل هناك الأقبية التي دفنت فيها مومياوات القطط.
كعادة مصر، يمكن لدولة أخرى أن تقيم اقتصادًا كاملاً على السياحة التي يجلبها مكان كهذا. وكالعادة ليس المكان مستغلاً على الإطلاق، وقد هدم الأهالي ما أبقاه الفرس والزمن.
وسط الأحجار العملاقة الساقطة على الأرض ووجوه التماثيل الفرعونية الباقية، وبقايا حضارة مذهلة لم يبق منها الكثير. تسمع من بعيد صوت الريح كأنها صلاة الكهنة لآمون .. لا بل باستت.
الغروب يقترب .. يوم حافل من التصوير وجمع الأخبار قامت به عائشة. هل من حفريات جديدة ؟ هل يمكن ترميم شيء؟ إلخ .. كنت أرافقها لكني في الحقيقة كنت أتاملها ..
عندما صار المكان مقفرًا ونور الشمس يكتسي بأرجوانية تشي بالاحتضار، بدت لي رقيقة هشة جدًا .. لقد انهار السور الذي وضعته لنفسي، ولم أعد أتحمل أكثر. كانت تخشى أن أغازلها وكنت أخشى ذلك، لكن كان هناك واحد آخر هو الذي يتكلم ويتصرف في هذه اللحظة..
أمسكت بيدها بشيء من القوة، وشددتها نحوي، فرفعت نحوي عينيها الواسعتين الطفوليتين، وأدركتْ على الفور أنني مسحور. أطرقت بوجهها وهمست وأهدابها تغطي خديها:
ـ«جلال .. أرجوك … أنا مثلك ضعيفة جدًا … يجب أن ………………».
نغمة الهاتف الجوّال المزعجة ..
ـ«هلم رد!».
هي أدركتْ أنني سأتجاهل المكالمة، فحمستني. مددت يدي إلى جيبي وأنا ألهث انفعالاً، ألعن المتصل في سري، فسمعت صوت عامر يتكلم…
ابتعدت بضع خطوات بينما جلست عائشة على حجر ضخم، وراحت تتظاهر بأنها تدون ملاحظاتها. كانت مشتتة عاطفية وكنت كذلك..
قال عامر:
ـ«جلال … كنت أراجع بعض الأوراق، فتذكرت ما حدث لأستاذي العظيم ثروت الرفاعي أبي عائشة .. كان مهتمًا أصلاً بطقوس عبادة الأنثى في الأدب القديم، وما بقي منه في الموروث الثقافي. ذهب منذ عشرين عامًا تقريبًا إلى المغرب ودرس أسطورة معينة، وفجأه حرق كل أبحاثه وترك البلاد كلها بلا إنذار وعاد لمصر. هناك تزوج وأنجب ابنته. الأسطورة التي كان يدرسها هي أسطورة عيشة قنديشة ..».
ـ«قنديشة؟».
-«أي الكونتيسة عائشة .. هذه أسطورة تعود لعصر الدولة الأندلسية. ويقال إنها قاتلت البرتغاليين، وقد أطلقوا عليها اسم الكونتيسة عيشة».
قلت ضاحكًا:
ـ«إذن أستاذك قرر تسمية ابنته بنفس الاسم تيمنًا ..».
عاد يقول في إصرار:
ـ«حسب الأسطورة .. عيشة شيطانة تعيش في المستنقعات. أحيانًا تنسج الأكاذيب لتوقع الرجال مع زوجاتهم. هنا تتقمص دور سيدة عجوز، ثم تتحول لفتاة جميلة ولكنها ذات قدمين تشبهان خف الجمل. تفتن الشباب وتستدرجهم لأماكن نائية ثم تلتهمهم وتمص دمهم .. هناك علامة أخرى تميز عيشة قنديشة هي خوفها الشديد من النار … ».
كان يتكلم وكان الظلام يدنو، بينما جلست عائشة تدون في دفترها .. رقيقة هشة .. لكن قدميها كبيرتان حقًا ومدسوستان للأبد في حذاء مطاطي .. مشاهد عدة تتداعى في ذهني:
-« أشعل صفوت – لأنه أحمق – لفافة تبغ، فصاحت عائشة في ضيق: كف عن هذا .. لا أطيق رائحة التبغ!».
-« كان يصغي وهو يفتح القداحة ويغلقها في شرود .. يراقب اللهب الوليد ثم يدفنه. حالته النفسية تتجسد في هذه الشعلة. سمع المرأة تشهق وتقول: أطفئ هذه وكلمني».
-« أشعل عامر لفافة تبغ. تقززت عائشة كعادتها في كراهية السجائر..».
-« لكن عائشة قالت في ضيق إنها لن تجلس. وابتعدت بسرعة في نوع من الهستيريا التي لم أر مبررًا لها».
الحقيقة أن عائشة لا تكره رائحة التبغ، بل من الواضح أنها تكره النار .. الآن أفطن لهذا ..
عامر يواصل الكلام بينما الظلام يزحف فوق الحفريات:
ـ«أعتقد أن لمياء لا علاقة لها بهذه القصة .. لقد ظلمناها اعتمادًا على مصادفة. الحقيقة أن الشخص الذي شهد كل هذا كان عائشة .. بشيء من الخيال يمكن أن نتصور أن لعنة عيشة قنديشة طاردت الأستاذ المذعور ففر من المغرب .. لقد عرف أكثر مما يجب. جاء لمصر فوجد نفسه مرغمًا على أن يسمي ابنته عائشة .. وكان على ابنته أن تحمل اللعنة، فتكرر نفس قصة عيشة قنديشة .. تمارس نفس حياتها.. تخدع الأزواج وتغرر بالشباب وتمزقهم .. وواضح أنها استدرجت صفوت البائس للمستنقعات. هل تريد رأيي؟ أرى أن تراقبها جيدًا».
أغلقت الهاتف وابتلعت ريقي .. ثم رفعت عيني نحو عائشة ..
لم تكن هناك جالسة فوق الصخرة.. ماذا؟ أين ذهـ …
فجأة شعرت بها من خلفي .. متى وكيف جاءت؟ وجهها في الظلام أتبينه بصعوبة، وسمعتها تقول بصوت لا يمت لعائشة الرقيقة بصلة:
ـ«سمعتك تقول قنديشة بصوت عال .. وكان من السهل أن أسمع باقي المكالمة. إن صديقك عامر يجيد عمله .. يجيد عمله فعلاً…!».
يتبع