اللوحة للفنان: أنس أبو خليفة |
سبلاش .. سبلاش!
يمكنك سماع صوت القدمين وهما تبعثران الماء الموحل .. تتسع الدوائر ويضطرب السطح اللجيني النائم في ضوء القمر الفضي .. القمر فاتر شديد البرد واللامبالاة يرمق هذا المشهد .. قاسٍ كنصل السكين .. يطل من وراء أستار الغيوم فيبعثر بعضًا من نوره الفضي عليها قبل أن يتوارى.
سبلاش .. سبلاش!
تتمنى لو كانت الحياة أفضل من هذا .. لو كان القمر يبعث ضوءًا أكثر فعالية وبهجة .. لو كان الركض في أوحال المستنقعات أسهل .. لو أنك تمساح أو أفعى .. لو أن حظك أفضل أو أن مطاردك أبطأ وأضعف.
لكن لات حين مناص .. لا مجال للتمنيات .. نحن في زمن الحقائق.
والحقائق تقول إنك ستموت هنا والآن .. لأنك لن تستطيع الفرار إلى ما لا نهاية .. إن الخطر أقوى منك وأكثر رشاقة وينساب فوق المستنقعات بسهولة تامة.
أنت تغوص في الوحل حتى الركبتين وتحاول جاهدًا أن تتماسك .. لو عبرت إلى هذه الضفة فلربما كانت هناك فرصة في الركض .. لا تنظر للخلف .. كل من ينظرون للخلف أثناء الركض يسقطون وينتهون.
ما مصدر هذا الصراخ الذي يصمّ الأذنين؟ من يصرخ؟ لحظة! .. هذا أنت! .. أنت من يصرخ بهذا الشكل وكل هذه الهستيريا، وكنت تحسب أنك أكثر تعقلاً واتزانًا.
«ليتني أكفّ عن الصراخ! .. هذا الصراخ يشتّت انتباهي ويفقدني التركيز ويشعرني باقتراب النهاية».
لا جدوى .. لابد من التوقف والتقاط الأنفاس .. لابد من المواجهة.
المطواة في يدك .. ربما بشيء من البراعة والسرعة استطعت أن …………..
ما هذا الشيء الدافئ الذي يبلل صدرك؟ ما هذا الوهن الذي يسري في جسدك؟ من وضع هذا الستار الأسود أمام عينيك؟ ما الذي …………..؟
*******************
أحد صيادي البط وجد الجثة الطافية فوق المستنقع وقد تمكنوا من جرّها إلى الشط .. كان هناك العديد منهم لأن هذا هو موسم الصيد في يناير.
جاء رجال الشرطة بعد الظهر وأنا معهم طبعًا، كنت أحمل الكاميرا والتقطت حشدًا من الصور أعرف أن معظمه لن يُنشر ككل صور سفاح المستنقعات. عندما يفرغ من عمله تكون الصور غير قابلة للعرض إلا في مواقع الرعب الغربية.
ليست بركة عنان هي أكبر البرك هنا .. هناك بركة إتيان ومساحتها ثلاثة آلاف فدان، هناك بركة العباسة التي كان الملك فاروق يحب الصيد فيها؛ لكنها صارت مزارع أسماك حاليًا. يمكنك أن ترى طيور أوروبا المهاجرة في كل مكان من حولك .. من العسير أن تذكر كل الأنواع التي تطل عليك من وراء الأعشاب الطويلة .. أعتقد أن منها الشهرمان والبلبول .. تذوقت الطائر الأخير منذ أعوام وكان طعمه كريهًا بحق .. زفارة لا يمكن وصفها؛ مما جعلني أقرر أنها طيور لمتعة العين لا البطن. إنه منظر بهيج فعلاً؛ لكن وجود جثة ممزقة بهذا الشكل يفسد مزاج أي شخص في العالم.
قال الضابط:
-«أكثر من صياد كان موجودًا في لبدة الصيد منذ الفجر ولم ير شيئًا .. ما نراه حدث ليلاً ولم تشهد عليه سوى الطيور».
ثم أشعل لفافة تبغ، فأضفت:
-«كالعادة».
لكن أحدًا لم يهتم أو يعلق بما أنني شخص سخيف وممل، لكنهم لا يتخلصون مني لأنني كمحقق حوادث أقدم لهم فرصة الشهرة .. كل واحد فيهم سيشتري لزوجته الجريدة لتقرأ (انتقل فريق البحث بقيادة المقدم فلان والملازم فلان) .. إنه مهم جدًا. ومن هنا تأتي أهميتي أنا.
هناك لمياء وعائشة وصفوت .. الوجوه الصحفية الدائمة. البعض جاء من فاقوس والبعض جاء من مكتب جريدته في الزقازيق، وقد صار واضحًا أننا سنقيم هنا لفترة طويلة .. الكل يلبس أحذية طويلة العنق بالطبع.
للمرة الرابعة هناك جثة شاب ممزق بلا قطرة دم واحدة يرقد وسط أوحال المستنقع، ومن الواضح أنه قضى ليلة سوداء .. هناك شخص يتلذذ جدًا بهذه الحفلات، غالبًا هو – القاتل والمقتول – من صيادي البط الوافدين هنا .. أو هو من المقيمين الأصليين.
كنت أحمل ميلًا خاصًّا نحو عائشة، محررة الحوادث في جريدة الـ(…) وهي جريدة موجودة على الإنترنت فقط. هناك جاذبية خاصة للفتيات الخاليات من الأنوثة؛ يمكنك في لحظة بعينها أن تتصور أنها شاب وسيم، خاصة مع شعرها القصير وثيابها العملية، هي كذلك شخصية جادة، وأنا أمقت الدلال الأنثوي لأنه يختلط بالميوعة كثيرًا.
صفوت أحمق، هذا يلخص كل شيء ولا داعي لإطالة الكلام، يبدو كأحمق ويفكر كأحمق ويتكلم كأحمق. هل تعرف السبب؟ لأنه أحمق .. وله زوجة حمقاء مثله تنتظره في قريته.
لمياء حسناء رقيقة تبدو كأنثى جدًا، وأعتقد أن صفوت يميل لها برغم أنه متزوج .. هذه العلاقات قد ولدت مع الوقت برغم أننا نمثل صحفًا متنافسة، لكن وجودنا جميعًا في محافظة الشرقية جعلنا نقترب جدًا.
أشعل صفوت – لأنه أحمق – لفافة تبغ، فصاحت عائشة في ضيق:
-«كفّ عن هذا .. لا أطيق رائحة التبغ!».
قلت لها وأنا أمدّ يدي لأعينها على الخروج من وهدة بين الأعشاب:
-«هذه الرائحة هي الطريقة الوحيدة لتبديد رائحة المستنقعات، السجائر أقوى مزيل روائح عرفته البشرية في رأيي».
دنوت من الضابط ممسكًا جهاز التسجيل محاذرًا أن أسقط في المياه الموحلة، وسألته:
-«هل من خيط جديد يا سيدي؟».
-«لا شيء .. نفس الطريقة، غالبًا نفس القاتل، من الصعب مراقبة هذه المساحات الشاسعة ليلاً؛ فليس لدينا رجال يكفون لهذا .. أعتقد أننا سنعتمد على الإعلام، سوف نحدث حالة من الرعب والحذر، وهذا دوركم طبعًا».
كنت أعرف أن هذا دورنا وأرحب به جدًا .. ليس أحبّ للصحفي من أن يثير الذعر في النفوس. جميل أن تتسق مصلحتي مع مصلحة الحكومة والمصلحة العامة؛ لحظة تناغم نادرة.
بينما كنا نبتعد بصعوبة عن موقع المذبحة، كنت أمشي بجوار صفوت. كانت لمياء تنساب من بعيد مع عائشة وقد تأبطت ذراعها. قال صفوت وهو يتأمل لمياء الرشيقة تسري ولا تمشي:
-«لمياء تبدو لي فوق الواقع .. أسطورية .. لا أرضية .. هل تعرف أنها ليست مصرية؟».
بدا لي هذا غريبًا .. كل شيء فيها يوحي بأنها مصرية .. لهجتها مصرية جدًا، فقال صفوت:
-«أبوها وأمها ليبيّان .. جاءا لمصر وهي طفلة .. ألا يسحرك هذا؟، إنها مختلفة في كل شيء».
هززت رأسي .. وكنت أفكر في رحلة العودة المرهقة إلى الزقازيق والمقال الذي سأكتبه. لكن لابد أولاً من غداء دسم كما تعلم.
يُتبع