تلوا باطلاً وجلوا صارمًا .. وقالوا أصبنا فقلنا: نعم
هذا البيت للعبقري أبي العلاء المعري يلخص ما أريد قوله.
تكررت بين الشباب وفي مواقع التواصل الاجتماعي نغمة من الرفض أو استنكار معظم ما يحدث على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي والأمني. هناك قارئ ذكي كتب على الفيس بوك:
وهي ملاحظة شديدة الذكاء. البوست يحمل اسم شخصية سياسية شهيرة من أيام مبارك، لكن أعتقد أنه مزيف. أجمع الناس على أن حادث خطف الطائرة الذي قام به ذلك المطعون في حبه أريد به أن ينسى الناس موضوع هشام جنينة. بصراحة لا أعتقد ذلك. من عزلوا هشام جنينة لا يعتبرون الأمر بهذه الخطورة او أنه سيحدث غضبة شعبية، كما أنهم ما كانوا ليخاطروا بتدمير السياحة نهائيًا، وهي آخر مصدر للدولارات في مصر، والاقتصاد آخر شيء يمنع الناس من الانفجار. الأمر ببساطة نوع من المصادفات سيئة الطالع، كما مات طه حسين في ذروة ثغرة حرب أكتوبر، وكما مات المنفلوطي في يوم إطلاق الرصاص على سعد زغلول، فكتب شوقي قصيدته الشهيرة يخاطب فيها المنفلوطي:
هكذا تم عزل هشام جنينة في نفس يوم الهول.. يوم خطف الطائرة. تم قتل حامل الرسالة كما توقعنا بالضبط، ويُقال إنه محددة إقامته كأنه تهديد أمني مخيف، ويقال إنهم صادروا هواتفه. لست متأكدًا من هذه الأخبار على كل حال.
في نفس الفترة نسمع أخبارًا عجيبة عن الطالب الإيطالي ريجيني، مشكلة المشاكل التي أوقعتنا في خلاف مع الاتحاد الأوروبي كله. وقيل إن الاتحاد الأوروبي تلقى أموالاً من الإخوان – ذوي القدرة الكلية – ليهاجم مصر. ثم جاءت قصة الشاهد الزور. المهندس الذي تطوع بالكذب من أجل مصر. ثم الكمين الذي تسبب في مقتل ستة أفراد في ميكروباص، والعثور على حاجيات الفتى الإيطالي سليمة. لاحظ الناس في دهشة أن العصابة احتفظت بكل حاجيات الفتى كأنها أحراز قضية، فلم يبق سوى أن يكتبوها في جدول ويجعلوه يوقع. هناك حشيش لم يدخنوه لأنهم يخافون على صحتهم، ودولارات لم ينفقوها لأنهم أمناء. ولماذا يحتفظون بكشوف للمبالغ التي سرقوها من كل الجنسيات؟. هل هو كشف (نقوط) في فرح؟. ثم لماذا تشوه العصابة من تخطفه وتعذبه حتى الموت ولا تطلب فدية؟ هل الفتى مخطوف للتسلية السادية فقط؟. لم يقبل الإيطاليون كل هذه التفسيرات العجيبة، وفي هذا الكليب نرى موقفهم من القضية. وهنا نرى تعليق الصحف الإيطالية على قصة الداخلية المصرية المسلية. اقرأ هنا لو كنت تجيد الإيطالية، أو ترجمها بجوجل كما فعلت أنا.
هكذا تنهال الضربات على السياحة من كل مكان، ومن جديد نتذكر حادث قتل السياح المكسيكيين. قرأت هذا التعليق وقتها، وكان كثيرون يؤمنون بصدقه:
طبعًا لا أحد يتحدث الآن عن هذا الكلام الفارغ أو الفيلم السينمائي السخيف.
ننتقل الآن إلى قضية تعديل الدستور. في فترة من الفترات كانت الصلوات تقام لعبادة الدستور الجديد.. أفضل دستور عرفته مصر كما قيل، وقرأنا مزاياه في ألف مقال صحفي، ورأينا النساء اللاتي قلن نعم يرقصن أمام اللجان بعد التصويت. كما في هذا الكليب.. وهذا الكليب.
فجأة اكتشفوا أن هذا الدستور لا يلبي احتياجات مصر، وأن واضعيه ذوو ميول إخوانية وأنه أكبر مأزق وقعت فيه البلاد. وهكذا هبوا يزودون عن الوطن صائحين: لا للدستور.
وعلى الفور ولدت استمارة المطالبة الشعبية بتعديل الدستور (وطن):
هكذا لو لم يوافق مجلس الشعب على هذه المطالب يتم حله فورًا. وأنت تعرف أنهم سيجمعون 40 مليون ورقة. حكي هيكل إن السادات غضب على البابا شنودة جدًا، فقال إنه سيعزله. ذكره هيكل إن البابا سلطة روحية غير قابلة للعزل، فقال السادات: "مش أنا اللي حاعزله.. حاعمل استفتاء والشعب هو اللي حيقرر يعزله!!". هذه لعبة معروفة. كل ما تريد عمله يسهل أن تجعل الشعب يريده بجنون، وقد قلت من قبل - أيام مبارك - إن الناس ستقدم له وثيقة مكتوبة بالدم – غالبًا دم الدجاج – تطالب بأن يصير جمال رئيسًا للجمهورية، كما قلت بعد خطاب مبارك المؤثر في ثورة يناير 2011 إنه لن يرحل في سبتمبر كما يقول، لأن مجلس الشعب سيبكي ويتوسل له أن يستمر للأبد، وسوف يمتثل هو مرغمًا. الآن نعرف يقينًا أن الدستور سيتغير ويمنح الرئيس صلاحيات مطلقة ويجعل المحاكم العسكرية إجراء روتينيًا.
ننتقل لحماس . قدمت وزارة الداخلية أدلة كاملة على أنها المسئولة عن اغتيال النائب العام في يونيو 2015. شاهد وزير الداخلية يؤكد الاتهام هنا. وخلال أسبوع يزور وفد من حماس مصر للاجتماع بالمخابرات. اقرأ الخبر هنا. هل تمت تبرئة حماس إذن؟ وكيف تجتمع المخابرات مع منظمة قاتلة؟
تقدم لنا الداخلية قصة ممتعة أخرى، عندما ترينا صورًا من مكان تؤكد أنه سجن برج العرب حيث سجن الصحفي يوسف شعبان. مكان فاخر وبوفيه مفتوح، ويظهر في الصورة مجموعة من الصحفيين امتلأت أشداقهم بالطعام، كأننا في البوفيه المفتوح لشيراتون مثلاً. زوجة الصحفى رنوة تقول إنها لم تر هذا المكان من قبل ولا تعرف عنه حرفًا. والمكان الذي تقابل زوجها فيه أقرب لشبكة صرف صحي كبيرة، تنتظر فيه من السابعة صباحًا حتى الخامسة مساء من أجل دقائق. اقرأ التحقيق هنا.
تذكرت عندما قدم التلفزيون مسلسل الجماعة، ورأينا المعاملة الراقية التي يعاملها رجال أمن الدولة للإخوان المعتقلين، كتب معلق ظريف يقول: "لما شفت المسلسل حسيت اني مقصر في حق الوالد. كان لازم أفسحه في أمن الدولة كل أسبوع. بس خدوا بالكم لأنه بيحب القهوة محوجة والا حيسخط ويخرب بيوتكم!".
يتبادل الناس هذه الأخبار مع السخط والعجب. لكني لا أرى سببًا لهذه الدهشة. تلوا باطلاً وجلوا صارما.. وقالوا أصبنا فقلنا نعم. قالوا كلامًا فارغًا ثم لوحوا بسيوفهم وقالوا: كلامنا هو الصواب بعينه، فلم نستطع إلا أن نقتنع بأنهم رائعون.
إنهم يملكون المدرعات والغاز والخرطوش وقوات الأمن المركزي ومعظم الإعلام.. يملكون القوة . لهذا هم الذين يحددون من الأشرار ومن الأخيار، ويحددون الحق والخير والجمال بالمفهوم الذي يناسبهم. أنت معهم إذن أنت تمثل الوطنية والخير.. أنت تعترض إذن أنت خائن وطابور خامس وعميل.
مشكلتهم أنهم يريدون كل شيء، ويريدون كذلك أن تؤكد لهم أنهم على حق!. لكنهم ينسون أنك مهما كنت قويًا باطشًا، ومهما انتزعت كل شيء، فهذا لا يكفي لجعلك على صواب ما لم تكن كذلك فعلاً.