يبدو أننا انتقلنا إلى لعبة (أنا رأيت هذا لكنه اختفى) الشهيرة، وهي الطريقة المثلى لقضاء باقي عمرك في مصحة عقلية. كنت أقلب ذاكرة الهاتف الجوال في جنون، حتى أنني أوشكت على أن أقرعه بالمنضدة لأفرغ ما فيه من صور كأنها نخاع بقرة.. بدأت أقسم في هستيريا أنني…..
-«أنا أصدقك».
قالتها عائشة في رفق، كأنها تهدئ حصانًا جامحًا، حتى توقعت أن تربت على منخري بينما أركل الغبار بحوافري، ثم قالت:
-«الملفات تُفقد .. الذاكرة الرقمية ليست خالدة».
-«لكن باقي الصور سليم!!».
حكيت لها ما تجهله من القصة بالتفصيل.. ثم نهضت وألقيت بورقة مالية على المنضدة وهتفت بلهحة آمرة:
-«سوف نذهب إلى بيت صفوت .. أريد أن أقابل أرملته».
-«هل جننت؟».
-«بالطبع جننت!.. أنت بطيئة التفكير اليوم. ماذا بوسعي أن أفعله غير هذا لأبرهن على أنني مجنون؟ لا أجد سكرولة أضعها على رأسي».
عامر لديه سيارة لادا عتيقة جدًا، أوصلنا بها إلى الشارع الذي يقيم به صفوت، أو – للدقة – كان يقيم فيه. توقفت السيارة فترجلت أمام البناية الشامخة المزدحمة التي صارت آية في القبح من فرط كثرة عيادات الأطباء واللافتات والسلم المغطى بالبصاق وأعقاب التبغ. هناك محل عصير قصب تحت البناية وهناك تاجر أحذية. تصلبت ونظرت إلى الجهة الأخرى من الشارع. شركة سياحة.. مصلحة حكومية.. لا توجد مساكن.
عبرت الشارع بسرعة بينما عائشة وعامر ينظران لي في عدم فهم. جميل أن يعتبرك الناس مجنونًا لأن هذا يعفيك من تفسير تصرفاتك. هناك كشك سجائر ذهبت إليه وتبادلت الكلام مع البائع، ثم وجدت بائع صحف فوقفت معه ووجهت له بضعة أسئلة، ثم عبرت الشارع وسط السيارات واتجهت إلى محل عصير القصب ومن جديد دارت محادثة قصيرة..
عندما عدت أعتقد أن بوسعي أن أخمن التعبير الذي ارتسم على وجهي وأنا أنحني على النافذة.. ثم عبثت في علبة التبغ، وأشعلت سيجارة. شعرت بحاجة للتدخين مع أن عائشة لم ترني أدخن قط، فصرخت في ذهول:
-«هل جننت؟».
نفثت الدخان ورحت أتأمل وهج التبغ ثم قلت:
-«سئمت تكرار الاعتراف بأنني مجنون منذ صحوت من النوم.. نعم أنا مجنون.. ».
أصرت على أن أطفئ السيجارة وإلا فلن تستمع لي. فعلت هذا مرغمًا ثم قلت:
-«لا أحد على جانبي الطريق يعرف امرأة مسنة اسمها نجوى علام، تعتمد على عكاز معدني ثلاثي وتسكن هنا.. هذا منظر لا يمكن نسيانه. صفوت – يرحمه الله – كان أحمق، وقد قبل قصة العجوز بلا مناقشة، برغم أنه يعرف المنطقة جيدًا، وهو أدرى بأنه لا توجد بناية مواجهة لبيته تصلح لالتقاط الصور. هذه العجوز كانت تخدعه عمدًا، وعلى الأرجح كانت الصور ملفقة.. لقد كان حدسي صحيحًا. أي شخص بكامل قواه العقلية لن يقيم علاقة مع زوجة صفوت إلا لو كان مولعًا بسحلية التواتارا…».
-«ولماذا تخدعه هذه العجوز التي وضعت قدمًا وعكازًا في القبر؟».
-«لا أعرف .. كانت لي خالة تهوى خراب البيوت على سبيل التسلية».
قال عامر وهو يسند ذقنه على مقود السيارة الذي لم يتركه:
-«هل تريدان بعض عصير القصب؟».
نظرت له وكدت أطلق الشتائم. توقف عن الدعوة البلهاء وقال:
-«ليكن.. دعك من هذا.. ما ارتباط مصرع صفوت بتلك العجوز في رأيك؟ قصة العجوز تدعم كلامي عن زوجة قاتلة أو عشيق قاتل..».
-«لا أدري ..».
ثم أضفت بعد تفكير:
-«كانت حيلة بغرض دفعه إلى أحضان لمياء… من يدري؟ قد تكون العجوز هي لمياء نفسها!! لو كنا نتكلم عن لاميا ملكة ليبيا المسحورة!».
صفرت عائشة بشفتيها بينما نحن نبتعد بالسيارة. لقد عدلتُ عن مقابلة الأرملة. لا جدوى من هذا..
********************
الحادث التالي وقع بعد يومين..
في الصباح عرفت بقتيل آخر في بركة أتيان.. وجده أحد الصيادين كالعادة. كان من الممكن ألا أذهب وأكتب التقرير في مكتبي.. كل شيء سيتكرر حتى التمزيق ومص الدم وآثار الأقدام العجيبة وحتى رجال الشرطة.. هذا السيناريو مستمر إلى أن يشاء الله…
لكن في هذه المرة طلب عامر أن يأتي معي لنرى مسرح الجريمة. في الموقع كانت عائشة.. لكن لا أثر للمياء!!! توقعت أن أجدها كالعادة. قد نقول إنها لم تأت لأنها توقعت أنني أتوقع وجودها كالعادة!.. هل عرفتْ شيئًا عن شكوكي؟
قالت عائشة مبتسمة:
-«لمياء لم تأت.. أنت ظلمتها».
-«بالعكس… المتهم الذي يختفي عندما توجه له أصابع الاتهام يثير الشكوك أكثر. ممكن أن تفعلها ولا تأتي للتحقيق الصحفي بعدها».
ابتعدنا عن المشهد الفظيع، ولاحظت أن عامر معجب بعائشة، لدرجة أنه تأبط ذراعها وهما يبتعدان. يستغل مزايا سنه المتقدمة وأنها في سن ابنته، وهو وسيم جدًا وغير متزوج. قد يشكل خطرًا علي بالفعل. لماذا لا يتركها لي؟ إنها لا تحمل صفات الأنوثة التي تجذب الرجال، بل هي أقرب لشاب وسيم، فلماذا هي بالذات؟ تذكرت المثل القديم (الكحكة في إيد اليتيم عجبة). كل الناس معجبة بها لأنني أحبها!! لو وجدت لقمة ممضوغة متسخة ورفعتها لفمي فلسوف ينتزعونها مني ويجدونها شهية جدًا.
كانت تضحك.. كأنها عائدة من المسرح..
هناك كان هؤلاء الصيادون يجلسون حول النار تحت شجرة يعدون بعض الشاي، وقد اتجه نحوهم عامر في مرح وطلب أن نشرب بعض الشاي معهم. أنت تعرف الشراقوة وكرمهم الفظيع، لذا رحبوا بنا بحرارة. لكن عائشة قالت في ضيق إنها لن تجلس، وابتعدت بسرعة في نوع من الهستيريا التي لم أر مبررًا لها. تركتها وجلست جوار عامر وتناولت كوب الشاي زكي الرائحة الذي يغسل همومك وإرهاقك وكل شيء، وأشعلت لفافة تبغ وناولته أخرى.. ثم قلت بلهجة ذات معنى:
-«أنت وجدت صديقة!!».
قال ضاحكًا وقد فهم مرادي:
-«دعك من هذا السخف.. إنها ابنة أستاذي في الجامعة. عرفت هذا عندما تبادلت الحوار معها. كأن أبوها دكتور ثروت الرفاعي.. مهتمًا بالأساطير مثلي.. إنها قاهرية أصلاً قبل أن تقيم في فاقوس».
-«هذه مصادفة عجيبة.. لكن من السهل أن تقع في حب ابنة أستاذك».
-«هي في سن ابنتي.. تذكر هذا».
ثم رشف بعض الشاي وهنا قطعت محادثتنا أصوات القوم الصاخبة. من كانوا مع الشرطة.. يحمل أحدهم شيئًا ملوثًا بالوحل ويتأمله في فضول…
-«كان مدفونًا في الأوحال…».
دنوت لألقي نظرة فرأيت ما في يده برغم الوحل والأعشاب المتمسكة به… هذا عكاز ثلاثي مما يستعمله المسنون للمشي!!.
يُتبع