كان هذا جنونًا بالتأكيد ..
لماذا فكرت في هذا؟ وما تلك الفكرة الطفولية التي خطرت لي؟
لكن المشاهد راحت تتتابع في ذهني وأنا متجه لموقع الحادث..
الحقيقة أنني كنت أشعر بشيء من الافتتان نحو لمياء، ليس افتتان العاشق ولكن افتتان المسحور؛ ففيها تلك اللمسة التي تميز الساحرات الشريرات القاسيات في القصص. ثمة شيء غير أرضي في وجهها. أنت تعرف أنني أحب عائشة بالطريقة العادية الصحية التي يحب بها أي رجل أي فتاة.
كانت لمياء دومًا في كل حادث من حوادث السفاح، وكانت تسبقني وعائشة دائمًا نحو مسرح الحادث والنشر، وأشهد أنها لم تصب بأي درجة من الذعر وهي ترى أكثر الجثث تمزقًا وأبشعها. هي هادئة الجنان دائمًا، على درجة من البرود لا شك فيها.. بالمناسبة، كانت لمياء تلبس العوينات السوداء كثيرًا جدًا. لماذا؟
هل هذا كافٍ؟
هناك أسطورة قديمة لا أذكر تفاصيلها.. لكنها تتحدث عن امرأة اسمها لمياء. ذكروني أن أستعيد الذكرى عندما أعود، ذكروني.
*******************
بالفعل كانت لمياء هناك .. سبقتنا عند ضفاف المستنقع وعند قدميها كانت الجثة الممزقة الملوثة بالأوحال، وقد أرقدوها فوق غطاء متسخ. لم تكن مهتمة على الإطلاق.. بل بدت لي أقرب إلى نمر يقف في فخر متأملًا جثة فريسته، وكنت أرى وجهي المذعور في انعكاس عويناتها الشبيهة بالزجاج. عبقري الذي اخترع قناع العينين هذا.
الضابط كان هناك وخبراء المعمل، وكانت هناك عشرات الصور.
نظرت لجثة صفوت.. كان أحمق لكنه مات ببشاعة. تذكرت ضحكاته.. كلماته.. انفعالاته.. لم أرَ شيئًا من هذا على الوجه الممزق. كانت هويته معه وهكذا عرفوا من هو. سيكون الخبر مثيرًا بالفعل. إن وفاة صحفي حدث مثير دائمًا.. خبر مصرع صانع الأخبار نفسه.
كنت أبكي..
كنت أقسم على الانتقام..
لماذا أرمق لمياء بهذه الكراهية؟ لماذا أرد عليها بهذا الجفاء؟
قال الضابط وهو يجلس القرفصاء جوار الجثة ويلهث من الضغط على حجابه الحاجز:
ـ«هناك أجزاء تم التهامها، كما أن العروق خالية من الدم كالعادة.. أعتقد أنني أعرف تقرير الطبيب الشرعي قبل كتابته».
قال زميله وهو ملازم شاب متوتر حديث العهد بهذه المشاهد:
ـ«هل تتحدث عن مصاص دماء؟».
ـ«وآكل لحوم بشر كذلك!!».
ثم نهض وأشار للأرض وقال وهو ينظر لوجهي:
ـ«الأمر كله يبدو قادمًا من جهنم. في كل مرة لا يرى أحد من صيادي البط شيئًا.. في كل مرة يفرغ الدم من الجثة. في كل مرة يتم التهام أجزاء.. في كل مرة نرى آثارًا كهذه».
آثارًا كهذه؟
كان الوحل ما زال طريًا على جانب المستنقع .. لكنك تستطيع بسهولة أن ترى آثارًا.. آثار أقدام ربما. لكنها مختلفة تشريحيًا. كأن هناك من يمشي على قبضته مثلاً. ربما هي تشبه الحدود الخارجية لرسم القلب.
نظرت له في دهشة فقال:
ـ«هل هذه أقدام بشرية؟ هناك وحش في هذه المستنقعات».
حككت رأسي مفكرًا، وبدا لي الأمر مألوفًا نوعًا. هناك فيلم سينمائي من أفلام الرعب العتيقة، كان السفاح يمشي فيه على قبقاب خشبي حُفر من أسفله ليرسم مخالب أسد أمريكي.. هكذا كان الناس يتحدثون عن جاجوار بينما الفاعل إنسان.
ـ«الأمر يحتاج لرأي شيخ!!».
قالها وراح يضحك حتى سعل. كان في الثلاثين من عمره، ويبدو أنه قد رأى الكثير فعلاً. ثم أضاف:
ـ«هناك شيوخ يجيدون طرد العفاريت في الزقازيق.. كان هناك أيضًا طبيب يجيد هذه الأمور، اسمه رفعت لو لم تخنني الذاكرة. كان من أبناء الشرقية، لكنه مات للأسف..».
كنت شارد الذهن.. كنت أحملق في لمياء… كنت أرتجف.. كنت أفكر في صديقي عامر. عامر في الخمسين من عمره، وله رسالة دكتوراه عن فكرة الإلهة الأنثى لدى الديانات الوثنية. لو لم يكن يعرف شيئًا عن هذه القصة فأنا لا أعرف من أين أبدأ.
ليس من عملي أن أجد القاتل.. بل علي أن ألاحق أخباره فحسب، لكن وفاة صفوت ألقت على كاهلي مهمة الانتقام. صفوت كان أحمق لكنه صديقي، وبالتأكيد لم يستحق ما حدث له.
*******************
سألتني عائشة وهي ترشف الليمون:
ـ«ما زلت لا أفهم».
عيناها الماكرتان الواسعتان في وجهها الصبياني اللطيف، لا أشبع منه أبدًا. كنت أعرف أنها تخشى أن أبدأ في الغزل وهذا الكلام الفارغ. لسبب ما يعتقد الرجال أن عليهم أن يغازلوا أي أنثى لطيفة. كنت واقعًا في حبها لكني لم أكن أنوي أن أحيل حياتها جحيمًا.. ليس الآن..
كان هذا نادي أحمد عرابي وقت العصر.. أحب هذا الجو كثيرًا. لكني لست في مزاج يسمح بالانتشاء. ومن بعيد ظهر عامر.. دكتور عامر إذا شئنا الدقة. من الصعب أن تصدق أنه حاصل على الدكتوراه أو إنه في الخمسين.. مستحيل. إنه شاب حديث السن فارع القامة يصلح ممثلاً. تذكرني ملامحه كثيرًا بملامح روبرت دي نيرو لو كان هذا الأخير ذا قامة فارعة.
رآني فهش وجهه وكان يحمل مجموعة من الأوراق. جذب مقعدًا فجلس معنا، ثم عرفته على عائشة. قلت له بصراحة إنها من جريدة منافسة لكني أعتبرها زميلة عزيزة.
قالت عائشة:
ـ«ما زلت لا أفهم سبب استبعاد لمياء من هذا اللقاء. أنا منافسة وهي منافسة».
لمياء.. هذا هو بيت القصيد…
المرأة الشريرة الخالدة.. الإلهة الأنثى التي قد تمنح الخصب مثل إيزيس وعشتار أو تنشر الرعب والدم مثل سخمت وليليث ولاميا والأخوات أمبوسي… عامر يملك إجابات..
أشعل عامر لفافة تبغ. تقززت عائشة كعادتها في كراهية السجائر.. لهذا أدخن بعيدًا عنها كأنني طالب ثانوي. لم ترني أدخن قط . قال د. عامر وهو يقلب في الأوراق:
ـ«لا أفهم جل قصتك، لكني سأخبرك بما أعرفه عن لاميا. حسناء تعيش في ليبيا أو ربما الملكة نفسها.. كالعادة كان زيوس كبير الآلهة – حسب الأسطورة – مولعًا بالنساء الأرضيات. كان يتسلل من وراء المدام ليمارس الخطيئة معهن، وكانت هيرا تعرف في كل مرة فتنتقم من الأرضية البائسة التي سحرت زوجها. هكذا انتقمت هيرا من لاميا فلعنتها.. قتلت أطفالها وجعلت عينيها لا تنغلقان لتطاردها أشباح أطفالها للأبد.. حولتها لوحش مخيف شبيه بالأفعوان، وكتبت عليها أن تمتص دماء الأطفال وتأكلهم لتعذب الأمهات الأخريات.. الخدمة التي قدمها زيوس لعشيقته السابقة هي أن جعلها قادرة عل نزع عينيها لترتاح من الرؤى قليلاً».
هتفت عائشة في رعب:
ـ«يا للشناعة!!».
قلت باسمًا:
ـ«هناك قصص أشنع لنساء أرضيات اكتشفن خيانة أزواجهن.. إنهن يفترسن العشيقة افتراسًا، أما الزوج فيتخلى عن عشيقته بسهولة تامة.. ربما يفتك بها مع زوجته».
ـ«لأن الرجال أنذال..».
قلت في برود:
ـ«ربما.. لكن النساء أفاعٍ كما ترين..».
كان رأي الاثنين قاطعًا. أنا أهذي وكل هذا تخريف، لكني كنت مصرًا على أن لمياء تتواجد في كل حادث.. تسبقنا. أصلها ليبي. مات أطفالها.. لا نرى عينيها بسهولة. هل تكرر الأسطورة نفسها؟؟؟
ـ«لاميا كانت تقتل الأطفال فقط».
ـ«ربما توسع نشاطها».
قال د. عامر في إصرار:
ـ«لا يمكن أن تذهب للشرطة وتقول هذا الكلام الفارغ.. ثم ماذا عن شكوك صديقك في زوجته وتلك الصور التي أخبرتني عنها؟ ألا تجد أن هذا مبرر كافٍ للقتل؟ زوجة قاتلة أو عشيق قاتل؟ لماذا لم تخبر الشرطة؟».
قالت عائشة في دهشة:
ـ«لماذا لم تخبرني بشيء؟».
كنت أنا أعبث في الهاتف الجوال لأريها الصور التي تثبت خيانة زوجة صفوت.. هنا.. هنا.. هذا غريب.. لا توجد صور!! .. لقد زالت من الوجود!!!
يُتبع