حكى هيكل عن ضابط بريطاني كان يراقب المناورات التدريبية للجيش التركي في مطلع القرن العشرين. لاحظ أن ضابطًا تركيًا يرتكب الكثير من الأخطاء، فقال له:
ـ"سيدي .. من أين تريد وسامك؟ من هنا أم من الجانب الآخر؟"
الحقيقة أن هذه العبارة تنطبق على مواقف لا حصر لها. فالحصول على رضا الغرب قد يستدعي أن تفقد رضا أبناء وطنك، والعكس صحيح. لربما كانت مصلحة العالم تقتضي أن تكون ضد قومك، وقد يكون معنى الدفاع عن وطنك أن يعتبرك العالم دولة مارقة، كما هو الحال مع إيران والعراق وكوريا الشمالية، وبالطبع كوبا.
تذكرت هذا المبحث وأنا أشاهد فيلم (سنودن - 2016) الذي أخرجه أوليفر ستون. كل أفلام أوليفر ستون متقنة ومهمة ومثيرة للجدل، وكلها تحوي قدرًا لا بأس به من المنطق المخادع ونوعًا من الدعاية شديدة الذكاء، عن طريق عرض أمور خلافية على أنها حقائق لا شك فيها. كما كان الناقد العظيم سامي السلاموني يقول: "للسينما حيل لا يمكن الإمساك بها. فعندما يظهر محمد علي جناح في فيلم غاندي وله ملامح أشرار السينما، وعندما تراه هو الوحيد الذي يشرب الويسكي بينما يشرب غاندي ونهرو عصير البرتقال، فإن الفيلم قد قدم لك رسالة كاملة من دون أن تستطيع اتهامه بالعنصرية". وهكذا عندما ترى الملامح الحساسة الوسيمة لبطل الفيلم الذي يلعب دور سنودن، وعندما ترى نقاءه المندهش، فإنك تتعاطف معه قبل أن يفعل أي شيء. وهكذا فموقف أوليفر ستون واضح: سنودن بطل.
تقف قصة سنودن كلها في منطقة رمادية غريبة: هل من البطولة أن تفشي أخطر أسرار بلادك أمام العالم كله، من أجل مصلحة البشرية ككل، ومن أجل مصلحة قومك بعيدة المدى؟ طرحت هذا السؤال في مقال كتبته عام 2013 بعد ما أفشى سنودن تلك الأسرار وما زلت لا أعرف إجابته يقينًا.
تدور أحداث الفيلم أساسًا في هونج كونج عام 2013 في جو متوتر رهيب، لأن سنودن – في الناسعة والعشرين وقتها – ينوي أن يكشف سرًا خطيرًا لجريدة الجارديان.. سرًا لو عرفت المخابرات المركزية أنه ينوي كشفه فحياته لا ثمن لها. ومن اللحظة الأولى ندرك أنه يعاني درجة هائلة من البارانويا والشعور بالملاحقة.. يضع أجهزة الجوال في الميكروويف، بينما يتهيأ صحفيو المجلة لإجراء حوار معه مع تصوير فيلم تسجيلي. الفيلم بعد هذا مجموعة من الفلاش باكات تستعيد رحلة سنودن منذ عام 2006 عندما تدرب على الاختراق والتلصص في المخابرات المركزية الأمريكية. يظهر براعة واضحة، فيتم نقله لسويسرا حيث يكتشف الجزء القذر من العملية: هم ببساطة يتجسسون على الجميع، ويراقبون أصدقاء أصدقاء أصدقائك وأقارب أقاربك.. لدرجة أن المخابرات المركزية تتحول لشبه إله أرضي يعلم كل شيء. لا غرابة أن رئيس سنودن يدعى (أوبرايان) في إشارة ذكية من السيناريو للأخ الأكبر في قصة 1984. كان أوبرايان هو ضابط المخابرات الذي يستجوب بطل الرواية. الأخ الأكبر يراقبك...
هؤلاء القوم يجمعون طنًا من المعلومات ويبحثون في حياتك عن نقطة ضغط أو شيء مخجل. تصل قدرات هؤلاء إلى أن يفتحوا عدسة اللاب توب ليصوروا فتاة منتقبة باكستانية تبدل ثيابها في غرفتها في الظلام مطمئنة للخلوة. إن سنودن يمر بأزمة ضميرية خطيرة وهو يدرك هول القوة التي تملكها المخابرات. يعمل كخبير يراقب أمن الأنظمة.. ويدرك أن الحكومة تراقب كل الأمريكيين في الواقع، عن طريق برنامج اسمه PRISM يفحص كل شيء.. صفحات الفيس بوك والشات والرسائل الإلكترونية وسكايب. لا توجد أسرار. ينجح سنودن في نسخ معظم الملفات المهمة، ثم يخفيها في رقيقة في مكعب روبيك الذي يحمله معه دائمًا، وبرغم التفتيش المرعب للداخلين والخارجين، وهو تفتيش لا يسمح لبرغوث بالتسلل فإنه يستطيع الخروج بكنزه الثمين. وسرعان ما تذيع الجارديان هذه القصة.. والواقع أن إذاعتها ضرورة لكي يحمي سنودن حياته ويعرف الكل ما يعرفه. يفر هاربًا من هونج كونج إلى روسيا. هناك استقر في الترانزيت بالمطار في مشهد يذكرنا بفيلم Terminal فيلم توم هانكس الشهير أو فيلم الحدود للعبقري دريد لحام. العالم كله يقابله هناك لكن الحكومة الروسية لا تسمح له بالدخول. في النهاية يسمح له باللجوء، ويقيم سنودن في موسكو منذ ذلك الحين.
ما هو تقييم سنودن؟.. على المستوى العالمي هو بطل خدم الحرية. لكنه برغم هذا جاسوس خان بلاده. يحكي هيكل – من جديد ! – في كتابه عن حرب الخليج عن البرنامج النووي العراقي الذي ظل لغزًا بعد حرب الخليج الثانية، وهنا – عند الحدود التركية مع العراق – كان اللاجئون العراقيون يتقدمون، فبرز رجل في الأربعين طلب مقابلة ضابط أمن أمريكي. سرعان ما جلبوا ضابط مخابرات أمريكيًا ليقابل الرجل، وبعد حديث دام ربع ساعة فطن الامريكي إلى أنه وقع على كنز. الرجل الهارب عالم عراقي يعمل في مؤسسة الطاقة النووية وقد أثبت شخصيته، وكان شرط العالم واضحًا: الهجرة له وأسرته إلى الولايات المتحدة وراتبًا وبيتًا. وصل لموقع الحدود خبير نووي أمريكي أعاد استجواب الرجل, وكان أقدر واحد على معرفة قيمة هذه المعلومات. هكذا تم نقل العالم في اليوم التالي لواشنطن حيث قاموا باعتصاره كالليمونة لمعرفة ما لديه من أسرار. وسرعان ما وصلت إلى بغداد بعثة من الأمم المتحدة تعرف ما تبحث عنه بالضبط.. تتجه إلى وزارة العمل العراقية لتفتش عن ملفات العلماء في البرنامج النووي. كان هذا طبعًا عندما كان البرنامج النووي العراقي منتعشًا.. إذن أمريكا كانت تعرف قبل أي واحد آخر – وقبل البرادعي – أنها دمرت قدرات العراق النووية تمامًا. بالنسبة لأمريكا يعتبر هذا العالم العراقي بطلاً... لكن ما رأيك أنت؟
أنت تذكر كل أفلام الجاسوسية المصرية، حيث يتم تجنيد الجواسيس بدعوى أنها منظمات للسلام تحاول وقف سيل الدماء بين البلدين. طبعًا لم يكن أحد على استعداد لسماع شيء عن هذا بينما يقف الجاسوس على طبلية المشنقة.
(موردخاي فعنونو) بطل عالمي آخر لكنه بالنسبة لإسرائيل خائن. خبير نووي إسرائيلي من أصل مغربي وذو ميول يسارية واضحة. عمل في مفاعل ديمونة النووي الرهيب.. ثم أنه ارتحل إلى أستراليا عام 1986 حيث قابل صحفيًا شهيرًا وحكى له عن أسرار المفاعل، وعرض عليه مجموعة صور تدل على امتلاك إسرائيل للقنبلة النووية. بل إن الخبراء النوويين اكتشفوا من الصور أن لدى إسرائيل ترسانة قوية جدًا تقدر بـ 200 رأس نووي.. كالعادة اختطفته اسرائيل – التي لا تترك ثأرها أبدًا – من الخارج ونقلته إلى داخل البلاد لعقابه بالسجن لمدة 18 عامَا. وقد نال عددًا لا حصر له من الميداليات واعتبره الكثيرون بطلاً عالميًا ورشحوه لجائزة نوبل للسلام. هذا رجل شجاع فعلاً وبالنسبة لنا كمصريين هو بطل طبعًا، لكن لو أنك إسرائيلي فكيف ستنظر له؟....
هذه مسألة منطقية مربكة في رأيي.. بحثت في النت عن رأي الأمريكان، فوجدت عددًا كبيرًا منهم يعتبرون سنودن خائنًا يجب أن يعدم، بينما يرى عدد كبير آخر أنه بطل عالمي. أنا لا أعرف الإجابة، لكني لن أقف أبدًا في صف أي سنودن مصري. ما يعنيني هنا كذلك أنني قضيت أمسية ممتعة مع فيلم متقن يثير الكثير من الأفكار والتساؤلات، كما أنه يصيبك بقدر هائل من البارانويا حتى لتشعر أن ترامب هنا في البيت يراقبك!