أعادني جو انفجار الكنيسة البطرسية إلى ستة أعوام بالضبط.. ست سنوات لو أردنا الدقة. نفس الجو الكارثي والغم اللذين شعرنا بهما بعد انفجار كنيسة القديسين. وكذلك استعدت جو تضارب المعلومات والأقوال، حيث قالوا في البداية إن العملية انتحارية، وإنهم وجدوا رأس منفذ العملية في شرفة قريبة، وله ملامح آسيوية واضحة، ثم قال شهود كثيرون إنها سيارة مفخخة. وفيما بعد – عندما كانت الثورة هي الموضة – راحت صحيفة شهيرة تؤكد أن حبيب العادلي هو الفاعل، وكانت واثقة من كلامها قبل أي تحقيق، واليوم غيرت هذه الصحيفة جلدها بالكامل بعد هزيمة الثورة.
أعادني لانفجار ست السنوات كذلك جو التضامن الحزين الذي ربط بين المسلمين والمسيحيين كما حدث ساعتئذ بالضبط، حتى أن بعض الشباب المسلم طلب وقتها عمل دروع بشرية حول الكنائس أثناء صلوات أعياد الميلاد، وكأننا دومًا محتاجون لحادث من هذا الحجم كي ندرك أننا جميعًا مصريون وأننا في خطر. رأيت صورة مؤثرة فعلاً لسيدات مسلمات بسيطات يبكين لمشاهد جنازة المسيحيين الذين مزقهم الحادث، فتذكرت سواعد المسيحيين التي رسم عليها الصليب، وهي تحمي المسلمين اثناء الصلاة في ميدان التحرير. هذه كانت صورًا حقيقية ولم ترتب لها الحكومة، كما يرتبون صور الشيخ الجالس قبل القس.
هذا حادث جلل بلا شك، وقد كتب صديقي د. ميشيل حنا في صفحته:
"حادث تفجير الكنيسة البطرسية النهارده أسوأ بكثيرمن حادث تفجير كنيسة القديسين سنة 2011، ولأسباب عديدة:
- عدد الضحايا أكبر، وعدد المصابين أكبر.
- معظم الضحايا نساء وأطفال.
- الانفجار المرة دي حصل جوا الكنيسة نفسها، مش في الشارع برا.
- الضربة موجهة لمجمّع كنائس الكاتدرائية، المقر البابوي لبطريركية الأسكندرية، وقدس الأقداس عند الأقباط.
- الكنيسة اللي اتدمرت المرة دي أثرية وليها تاريخ عريق، وواحدة من أجمل كنائس الأقباط على الإطلاق.
- بعد حادث كنيسة القديسين الأمن منع الركن حوالين كل الكنائس في كل الجمهورية، مع تعلية الأسوار وتغيير البوابات، وتركيب كاميرات مراقبة وقطع الأشجار حوالين الكنائس، ووضع بوابات إليكترونية، وتسليح العساكر اللي بيحرسوها بالرشاشات وحواجز أكياس الرمل، لكن كل الإجراءات دي ما منعتش الحادث. بعد الحادث الجديد غالبا الأمن هيشدد إجراءات دخول الكنائس بشكل كبير جدا لدرجة ممكن تطفش المصلين نفسهم، وهتخلي مجرد وجود كنيسة في المكان مصدر عذاب للسكان زي حال أقسام الشرطة والمنشآت الأمنية، وده برضه مش هيحل المشكلة، لكن هينغص علينا حياتنا أكثر."
من ضمن ما عرفته من ميشيل كذلك أن هذه الكنيسة أثر مهم فعلاً: "مبنية سنة 1912. تصميم أنطونيو لاشياك كبير مهندسي السرايات الخديوية. اللوحات للفنان الإيطالي بنتشيرولي. أعمال الفسيفساء لشركة أنجلوجانيزي من البندقية. الزخارف يإشراف مرقس باشا سميكة".
كانت هذه العملية فشلاً أمنيًا كاملاً، سواء تمت بعبوة مزروعة أو بحزام انتحاري. الكل تساءل عن كيفية دخول هذه المتفجرات أو الانتحاري للكنيسة. يؤكد لي أصدقاء مسيحيون كثيرون أن معظم رجال الأمن على الكنائس بلا فعالية، أو يتسلون بمراقبة الفتيات، وقد تم عمل بوابات إلكترونية كاشفة عن المعادن لكنائس كثيرة بعد حادث القديسين، لكن معظمها لا يعمل. عن نفسي قمت ذات مرة بزيارة دير أثري مهم؛ هو دير سمعان الخراز في المقطم، فلم يسألني أحد عن شيء ولم يطلب مني أحد فتح شنطة السيارة، ومعنى هذا أن دخول أي مول أصعب بكثير. تذكر يوم رابعة وكيف تم سحب كل أمن الكنائس في يوم حرج كهذا.
النقطة الثانية هي تضارب المعلومات. عمرو أديب عرض البلي الذي كان في العبوة الناسفة، ثم تكلموا عن امرأة تتنكر كراهبة، وتخفي المتفجرات (12 كلجم) في صدرها الرحب، ومرة هي منتقبة، ثم هي امرأة تدفع عربة طفل، وفي النهاية هو انتحاري استطاع الجلوس وسط النساء المصليات بطريقة ما. وهل الأحزمة الناسفة تحوي البلي الذي عرضه عمرو أديب؟ وما هو تحليل الحمض النووي فائق السرعة الذي أجروه، ومن أين النسيج الذي قارنوا الأشلاء به؟
قالت بوابة الأهرام في 12 ديسمبر الساعة 2:42 بعد الظهر، عن د. هشام عبد الحميد مدير مصلحة الطب الشرعي إن الجاني قام بوضع المتفجرات أسفل مقعدين في جانب السيدات وقام بالتفجير عن بعد بهاتف محمول، واستبعد كبير الأطباء حدوث عملية انتحارية أو تفجير بحزام ناسف، مؤكدًا أن التفجير تم عن بعد، وأن التفجير تم بطريقة تصاعدية من أسفل لأعلى. فكيف يتفق هذا مع ما عرفناه بعد ذلك؟ هل ارتكب الخبير كل هذا القدر من الأخطاء، ولماذا أدلى بهذا التصريح المبكر إذن؟
هوجم الإعلاميون بشراسة عندما تواجدوا في موقع الحدث، وكادوا يُضربون فعلاً، والسبب هو أن الناس شعرت بأن هذا نوع من البروباجندا لا يحتمله الموقف، لتجميل فشل الحكومة، واعتبرت أن هؤلاء هم الحكومة بلا زيادة ولا نقصان. رائحة الدم والدخان تزكمان الأنوف، فلا مجال لإعلامية تريد أن تؤدي فقرة تمثيلية بصوت مبحوح وتعتصر عينيها تأثرًا.. لقد خرب الإعلام هذا البلد كثيرًا.. وقد فهمت الناس هذا أخيرًا.
في النهاية نكرر القواعد الثلاث التي تثبت أنها على صواب في كل مرة:
- كل الدم المصري حرام. سمه رقصًا على السلم أو لعبًا على كل الأوتار.. براحتك. الإنسان الذي يستحق لقب إنسان يجب أن يحزن على ضحايا البطرسية، وينعي قتلى الشرطة والجيش الذين يموتون بلا ذنب سوى أن هذا واجبهم، ويبكي ضحايا رابعة الذين أغرقت دماؤهم الشارع، ويسأل عمن قتل شيماء الصباغ وجيكا والحسيني أبو ضيف.. إلخ. لا تقل على أي فريق: (يستاهل) لأنه ليس فريقك.
- العنف لا يجلب سوى العنف والدم لا يجلب سوى الدم. أي عملية إرهابية ستجعل الأمن أكثر شراسة، وسوف يتساقط ضحايا أبرياء، وهؤلاء سيتم الانتقام لهم بوحشية، من ثم ترد الداخلية بعنف أكبر. يجب أن يكون القانون هو المقياس الوحيد.
- التضحية بالحرية من أجل الأمن يفقدك الحرية والأمن معًا، وهذه قالها رؤساء أمريكيون كثيرون. نحن نضحي بالحرية والاقتصاد والصحة والتعليم والسياحة من أجل الأمن، ومن الواضح أن هذا لم يتحقق.
تكلمت كثيرًا، وكان من الواجب أن أصمت أمام كارثة كهذه، فالصمت يكون أبلغ في أوقات عديدة. فقط أردت أن أقول إن التاريخ يكرر نفسه، ومن الواضح أن الدوامة الزمنية اللعينة أعادتنا ست سنوات إلى الوراء.