قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, May 2, 2017

رفقاء الليل - 2


رسوم الفنان طارق عزام

جاء نجاتي بعد رشدي .

نجاتي من قرية جوار كفر الشيخ، وهو شاب في الثلاثين، لكن الصلع المبكر وتجاعيد الهموم على الوجه.. كل هذا جعله يبدو متقدمًا في السن حتى إنه يقارب عم إسماعيل. نجاتي متزوج، وهذه هي النقطة التي جعلته موضعًا للسخرية.. فهو النموذج الحي للكيفية التي يبدد بها الزواج المبكر رونق الشباب.

- «هي ابنة عمي.. عندنا في بلدنا ليست لديك فرصة التفكير. متى بلغت سن الثانية والعشرين تجد نفسك متزوجًا من ابنة عمك ولديك طفلان»

يسأله عم إسماعيل مازحًا:
- «ولو كانت ابنة عمك قبيحة مثل عديلة؟»

عديلة هي أنثى الشمبانزي طبعًا. وهي ضمن مسئولية نجاتي، فيقول نجاتي في حرارة:
- «قبيحة أو جميلة.. تحبها أو تكرهها.. هذه أمور غير ذات أهمية. هي ابنة عمك وكفى».

ثم يلقي بلقيمات خبز لعديلة التي تتمسك بالقضبان ويتمسك طفلها بثديها، ويقول:
- «ثم إن عديلة ليست قبيحة.. لعلها بالنسبة للقردة جميلة الجميلات»

بصفته الأحدث في الحديقة، وبصفة عم إسماعيل هو الأقدم تقريبًا، فقد كانت هناك جلسة طويلة مع الأخير علمه فيها الكثير عن مهام عمله. بالطبع كان نجاتي سيرث رعاية القردة بعد رشدي، وقد كلمه إسماعيل كثيرًا عن رشدي وعن عمله ونهايته الغامضة.

ثم إنه سأله:
- «هل تنوي أن تأخذ نوبتجيات سهر؟»

قال نجاتي في حماسة:
- «بالطبع .. أنا بحاجة لكل مليم من الدخل»

نفث إسماعيل سحابة كثيفة من الدخان وقال:
- «نصيحة.. خذ كل نوبتجياتك معي..»

- «والسبب؟»

قال عم إسماعيل وهو يرشف الشاي الثقيل:
- «هذه الحديقة موحشة.. كبيرة جدًا… وصدقني أن هناك أشياء غريبة تحدث من وقت لآخر. ما كانت العفاريت والشياطين لتجد مكانًا أفضل ليلًا»

ضحك نجاتي في عصبية.. هذه القصص..

- «أنا كنت في الجيش أمضي الليل في الجبل وحدي.. صدقني لا يقدر شيء على جعلي أصاب بالفزع..»

- «وأنا لم أحاول جعلك تشعر بالذعر.. فقط أنا أحذرك..»

ثم أزاح الطاقية ليحك شعره:
- «رشدي يرحمه الله سخر من كلامي في البداية..»

- «رشدي قتله حيوان مفترس أو قاتل مجنون. لم تقتله العفاريت»

- «هكذا يقال»

على كل حال كان نجاتي يدرك أنه لن يشعر براحة لو قضى الليل وحده في هذه الحديقة، ومهما بلغ من شجاعة. لا شك أن قضاء الليل مع إسماعيل يمكن أن يكون آمنًا ومسليًا.

هكذا بدأت ليالي السهر. مغامرة تتكرر مرتين كل أسبوع، ولا شك أن لها طابعًا فريدًا يكسر الملل. هناك رهبة بالتأكيد لكنها رهبة محببة. الغرفة الدافئة وأكواب الشاي وصوت الست أم كلثوم.. من حين لآخر يأخذ جولة في الحديقة مع عم إسماعيل، وتكون هناك بعض أعمدة النور مضاءة بينما يعتمدان على الكشاف في أماكن أخرى.

الأقفاص المظلمة.. لا ترى ما فيها إلا العيون اللامعة لوحش يراقبهما، دعك من أن معظم الحيوانات تبيت ليلتها في الأقفاص الخلفية غير معروضة على الجماهير.

بعد صلاة الفجر غالبًا ما يغلبهما النوم بعض الوقت، لكن عم إسماعيل يفيق مبكرًا ويعد كوب الشاي ولقمة للإفطار. بالطبع يكون اليوم التالي إجازة بعد نوبتجية السهرة.

الحياة ليست سيئة..

***************

لم يلحظ نجاتي شيئًا مريبًا أو غريبًا إلا بعد أسبوعين من السهر الليلي.

كان يمشي بين الأقفاص، ثم عاد إلى حيث يجتمع مع إسماعيل. هنا سمع صوت حوار.. هناك من يتكلم مع عم إسماعيل. دنا أكثر واستطاع أن يرى في الظلام أن إسماعيل يجلس مع رجل آخر، وكلاهما يدخن لفافة تبغ. كانا جالسين على العشب…

قال إسماعيل في مرح:
- «تعال يا نجاتي.. تعال أعرفك على جابر»

جابر في الظلام أسمر اللون له عينان لامعتان وشعر منكوش ثائر. من أين أتى؟

قال إسماعيل وقد سمع هذه الأسئلة في ذهنه:
- «جابر صديق عزيز.. لا تبال من أين أتى ولا كيف دخل.. فقط اجلس معه واستمتع بصحبته..»

نجاتي بدأ يتوتر.. ما معنى أن يدخل الحديقة ليلاً شخص غريب؟ ما دور الحارس الليلي إذن؟

ثم خطرت بذهنه أفكار أسوأ. كان يسمع عن حراس يخفون الهاربين من الشرطة في الحديقة ليلاً، وسمع عن حراس يسمحون للعشاق باللقاء المحرم في الحديقة.. مقابل مال طبعًا. إسماعيل ليس أمينًا على الحديقة إذن..

من جديد قال عم إسماعيل:
- «حاول أن تتناسى كل ما في ذهنك من هواجس.. تعال واجلس معنا»

لم يدر ما يقول.. في الظلام زحف على العشب ونزع صندله ثم جلس القرفصاء. وجد لفافة تبغ مشتعلة في يده فسحب منها نفسًا عميقًا..

قال جابر بصوت خفيض:
- «البرد في الليل يمنعك من النوم.. ترتجف. والرجفة تطرد النوم طردًا. ثم إن رائحة الأقفاص تجعلك عاجزًا عن الاسترخاء»

ثم ضحك ضحكة غريبة.. قهقهة مدوية لا مبرر لها. بدت مألوفة لدى نجاتي لسبب ما لم يستطع أن يتبينه. كان يحكي قصصًا غير مألوفة..

ثم سمع نجاتي صوت خطوات قادمة فأجفل. استدار للخلف فرأى ما كان يخشاه. هناك فتاة وشاب قادمان وقد تعانقت أيديهما. هذه أسوأ مخاوفه تتحقق. إسماعيل ليس حارس حديقة فقط..

قال إسماعيل بلهجة هادئة:
- «درية.. وسامح.. سوف تحب صحبتهما..»

كانت الفتاة – برغم الظلام – بارعة الجمال رشيقة بدرجة غير معقولة.. أما الفتى فكان مرن الجسد فارع الطول، والغريب الذي لاحظه نجاتي هو أنهما يلبسان أسمالاً على جسدين عاريين كما هو واضح.. هذه ثياب قديمة مهترئة جدًا..

من جديد دارت محادثة لم يستطع نجاتي أن يفهم معظمها… فقط لاحظ أن سامحًا يسعل من وقت لآخر سعلة طويلة قوية تجعل لسانه يتدلى. عندما قدم لهما عم إسماعيل شطيرتين من الشطائر التي يجلبها للعشاء، لاحظ نجاتي أنهما يأكلان بفظاظة وبلا تكلف..

لماذا لا يشعل إسماعيل النار؟

أخرج عود ثقاب ووضع بعض قطع الخشب الجاف فوق بعضها، وأشعل العود عازمًا على أن يشعل بعض النار لتشيع الدفء. هنا سمع صرخة محذرة.. وهتف إسماعيل:
- «لا تفعل!.. إنهم يريدون الظلام!»

ارتجف نجاتي.. الصرخة كانت رفيعة جدًا وغير بشرية على الإطلاق.. لو أردنا الدقة لقلنا إنها صرخة حيوانية….!

يُتبع