مظاهرة مصرية أمام نقابة الصحافيين احتجاجًا على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية. القاهرة - 2 يناير/كانون الثاني 2017 |
في الفترة الأخيرة تحطمت حواجز كثيرة جدًا من التي وضعها المجتمع ووضعتها الحكومة لنفسها، وبدأ الأمر يتخذ صورة سريالية لم نصدق من قبل أنها ممكنة.
كلما رأيت هذا تذكرت قصة يوسف إدريس الرائعة عن الخفير الذي عاد من البندر لقريته، ومعه عروس مسربلة بالثياب غطت وجهها بالكامل. حتى النساء وحتى نور الشمس لم يستطيعوا رؤيتها. يتساءل كل الناس في فضول عن شكل العروس. وفي ليلة سوداء يهرع الخفير صارخًا وسط ساحة القرية، ويحثو التراب على رأسه ويلطم.. يتوسل لهم أن يفعلوا شيئًا.
زوجته تلد والجنين محشور وهو لا يعرف ما ينبغي عمله. هكذا يهرع كل رجال القرية لإنقاذ الزوجة.. يضعون عليها ملاءة ثم يقومون بإنزالها عبر السلم الخشبي إلى الطابق السفلي، وبالطبع اضطر كثيرون من الشباب للإمساك بفخذها أو جمش صدرها، وانزلقت الملاءة مرارًا كاشفة عن عورتها، بينما الخفير يأمر هذا بأن يمسك جيدًا وذاك بأن يحتضنها بحزم أكبر.. وآه يا صديقي لو قرأتها بلغة يوسف إدريس الساحرة التي تنقل لك المشهد حرفيًا.
إن الرجل لم يصر سيد القصة القصيرة العربية بلا مسوغات تعيين. لقد انهارت الحواجز كلها وصار المستحيل واقعًا. وفي النهاية تم نقل الزوجة للمركز حيث تضع طفلها. بصراحة لا أذكر ما حدث بعد هذا. المهم أننا رأينا كيف يضع المرء حواجز وقيودًا لنفسه فتنهار فجأة ولا يبقى شيء، وتتساءل: لماذا لم يفعلوا كذا منذ البداية؟
هناك حاجز الحرص على أن يكون هناك مبرر قانوني لكل شيء. لقد زال هذا الحاجز وصارت لديك ترسانة استثناءات. نحن في حرب على الإرهاب ومن حقنا أي شيء، ومن يعترض داعشي أو عميل. لم تعد هناك حاجة لتلفيق التهم وكل هذا المشوار المرهق.. اليوم ظهر حل عبقري اسمه الاختفاء القسري.
ليختف من يثير حفيظتك من على ظهر البسيطة، ولن يجد أهله أثرًا يدل على مكانه أو يثبت أنه اختطف. ونحن نذكر المذيع المخبر رفيع الصوت إياه الذي قال على الهواء بالحرف الواحد (وبلا عقاب):
يا عم اعدم على طول. انت لسه حتحاكم؟
قرأت مؤخرًا مقالات جريئة جدًا لكاتبة صحفية، وأبديت دهشتي لصديقي لأنها ما زالت تكتب بحرية، فقال لي:
لابد أن لديها مستندات تدين الحكومة
ضحكت كثيرًا من سذاجته، وقلت له:
كان هذا في الزمن السعيد الماضي عندما كان الشخص يردد في تحد: لدي مستندات.. لن أذهب في داهية وحيدًا.. سآخذهم معي
اليوم لم يعد أحد يهتم لو أن الكاتبة اختفت قسريًا أو ذوبت في الحمض أو أي شيء. هم فقط تركوها لأنهم غير متفرغين لها.
هناك حاجز الحرص على رضا الغرب أو الظهور بصورة يحترمها. اليوم لا نريد منهم شيئًا فكلهم يريدون الخراب لمصر ويريدون قهرنا، وجمعيات حقوق الإنسان كلهم عملاء يقبضون بالدولار ويحاولون تخريب مصر. عليهم أولأً أن يراعوا حقوق الإنسان عندهم، وعلى من بيته من زجاج ألا يتسلى بقذف الحجارة. وباختصار شديد: «احنا كده واللي مش عاجبه».
هناك حاجز التعقل في أخذ القروض. أما أن تقترض لتسدد فوائد القروض السابقة فهي قفزة واسعة للأمام، وعلى الأرجح لن نصير سوريا والعراق أبدًا لأننا سنقفز إلى الصومال مباشرة توفيرًا للوقت. لقد صار حفيد ابني مكبلاً بالديون من قبل أن يتزوج ابني نفسه.
هناك حاجز الهيبة الذي كان يحيط بأماكن مقدسة مثل النقابات. اقتحام نقابة الصحفيين تم بسهولة تامة، وبالتأكيد تساءل المقتحمون لماذا لم نفعل ذلك منذ زمن سحيق؟ ولماذا كنا نحجم عن عمل كهذا أيام السادات ومبارك؟ سمعت تميم البرغوثي يقول في ندوة:
عندما يكتمل فعل الثورة تسقط هيبة الشرطي، فتدرك أنه مجرد رجل يلبس ثيابًا مختلفة!
الطريف أن الثوار لم يفهوا ذلك بينما فهمه أعداء الثورة بالعكس.
هناك حاجز البحث عن تهم منطقية أو ذات مصداقية. صرنا نسمع تهمًا سريالية غريبة جديرة بجائزة بوليتزر أو جونكور الأدبية؛ مثل خدش رونق القضاء والتشكيك في أداء النظام.. أتوقع تهمة مرمطة أحلام الأجيال القادمة أو اللعب في أنف الدولة أو ثقب الكبرياء الوطنية.
هناك حاجز رعب يناير 1977 الذي يمنع الحكومات من السحق النهائي للمواطن خشية انفجاره. لقد زال هذا الحاجز تمامًا، وحتى المقتدرين صاروا يصابون بالذهول عندما يكتشفون أن كيلو اللحم صار بـ 140 جنيهًا وكيلو الدجاج البانيه 90 جنيهًا. وما زالت الزيادات الحقيقية قادمة. وفي كل مرة تبدي الحكومة انبهارها بقدرة المواطنين المصريين على التحمل والصبر بشكل أذهل العالم، كأنهم يملكون حرية الاعتراض.
تذكرت ساخرًا عبارة وردت في إحدى القصص المصورة الفرنسية يقولها رجل كومندوز تم تجنيده بالقوة: «عن نفسي لقد تطوعت بحماس شديد بمجرد تهديد رجالك لي بالسلاح!».. وفي النهاية انتهت سياسة (لاقيني ولا تغديني) الحنون وبدأت سياسة (الشخط) و(اسمع الكلام).. المواطن هو المسئول بالكامل عن أخطاء النظام وفشله لأنه لم يكن رائعًا. عليه اللعنة إذن.
هناك حاجز الأرقام المعقولة للضحايا. هل تعرف كم عدد ضحايا مذبحة دنشواي التي راح مصطفى كامل يصرخ باسمها وكتب عنها برنارد شو؟ ونشأنا على أنها أشنع شيء ممكن في التاريخ؟ جلد نحو 36 فلاحًا وإعدام أربعة شهداء من أهالي دنشواي! هناك مذبحة نازية شنيعة اسمها ليلة السكاكين الطويلة وقعت في برلين عام 1934 وقد أدت لمصرع 85 شخصًا! اليوم تسمع عن أحكام إعدام على 500 متهم في جلسة واحدة، وعن مصرع 800 واحد – حسب أرقام وزارة الصحة نفسها – في نصف يوم رابعة. الأرقام لم تعد تخيف أحدًا.
هناك الكثير من الحواجز التي تتعلق بقدسية الأرض.. تتعلق بالعلاقات مع إسرائيل.. تتعلق بهيبة الدولة.. تتعلق بالنيل… إلخ…
يبدو أن مصر في حالة ولادة عسرة كالتي وصفها يوسف إدريس العبقري في قصته، وقد تهاوت كل الحواجز تقريبًا ولم يعد هناك من يخشى أي شيء قد يؤثر على شيء فيسبب أي شيء. علينا أن ننتظر الجنين القادم الذي قد يموت قبل أن يرى النور، أو يأتي مشوهًا مرعبًا. هي مشكلتنا على كل حال.