رسوم الفنان طارق عزام |
محاسن كانت ترضع الطفلة، وهي جالسة مع زوجها عاطف. كان الوقت قد توغل جدًا حتى أنهما بالفعل قد صار (غدًا) ولم يعودا (أمس). لكنهما اعتادا هذا.. البقاء في المحل حتى هذه الساعة نوع لا بأس به من قضاء السهرة، وكان التلفزيون الصغير ذو العشرين بوصة يكفي لجعلهما يسافران مع عالم الصور الحالم. في الثالثة أو الرابعة صباحًا تضع الطفلة على كتفها وتركب السيارة (اللادا) العتيقة جوار زوجها.. يعودان للبيت وينامان، وأنت تعرف أنهما لا يفتحان المحل قبل الواحدة بعد ظهر الغد.
ليس محلاً بالضبط.. بل هو مكتب اتصالات. معظم نشاطه يتعلق بالشحن وتجارة الكروت. لكن هناك بعض أجهزة الجوال القديمة وبعض الكماليات على الجدران.. وبالطبع ليس لك أن تتوقع أي عملاء بعد الواحدة صباحًا..
عاطف كان يلتهم بعض الخصّ بصوت عال، وهو يتابع المسلسل.. عندما نظرت هي إلى الباب فرأت ذلك الرجل الأصلع يركض نحو المكان. إنه يعرج بلا شك.. إنه مذعور كأنه رأى الشيطان..
والأغرب هو أنه يلبس ثيابًا شبه رسمية (يونيفورم) لها ذلك اللون الخاكي الكئيب.
شهقت فتوقف زوجها عن المضغ، وتلقائيًا مد يده إلى السكين التي قطع بها الخبز في العشاء ولوح بها منذرًا القادم الجديد، لكن القادم كان في حال سيئة.. ولم يبد حاملاً أي نوع من التهديد…
- «إنهم خلفي!»
- «من هم؟»
لا تفسير..
ثم إنه اقتحم المكان، وهتف وهو يواصل العرج ويتوارى خلف الكاونتر:
- «أغلق المحل.. بسرعة.. هناك ستار حديدي كما أرى!»
- «ولكن………….»
- «لا وقت للشرح!»
لم يفهم عاطف، لكن رسالة الرعب وصلت على كل حال.. هرع بسرعة وتناول القضيب الحديدي وبدأ يسدل الستار وهم بالداخل. الزوجة راحت ترمق القادم وهي ترتجف.. ليس مخيفًا لكن خوفه هو المخيف. ماذا رأى هذا الرجل البالغ حتى يصرخ ويعوي ويبكي بهذه الطريقة؟
جلس عاطف على مقعد بلاستيكي وأخرج لفافة تبغ قدمها لنجاتي، وقال:
- «هلا هدأت قليلاً؟.. ما الذي يطاردك؟»
- «لا أعرف»
هذه لحظة الخبال إذن.. جميل أن تقابل مجنونًا في الثالثة أو الرابعة صباحًا وأنت مع زوجتك وطفلك الرضيع. ثم……………………
الرائحة………………
البداية هي الرائحة الكريهة التي لا توصف… رائحة عطنة لم يشمها من قبل.
ثم صوت الزئير المكتوم.. الزئير القادم من خارج المحل..
ثم بدأت الدقات على الستار الحديدي..
بكى نجاتي وغطى وجهه:
- «ليرحمنا الله.. لقد تمكنوا من الهرب. كان عم إسماعيل يسيطر عليهم.. لقد جريت كثيرًا لكنهم اقتفوا أثر رائحتي.. شموها على بعد نصف كيلومتر. لكني أتوقع أنهم لا يعرفون كيفية فتح الستار»
عم يتكلم بالضبط؟
ما الشيء الذي يضرب الستار الحديدي بلا توقف؟
لكنه كان يعرف يقينًا أن عليه ألا يفتح هذا الستار. لا يحب أبدًا أن يرى الشيء الذي يسبب هذا..
استمر التوتر للحظات ثم هدأت الأصوات وبدأت تبتعد.. الرائحة تقل بلا شك..
قال نجاتي منذرًا:
- «لا تفتح الباب!.. لا أعتقد انهم ابتعدوا بهذه السرعة..»
استمرت الجلسة المتوترة ساعة أخرى.. الكثير من التدخين حتى صاحت الزوجة مزمجرة:
- «بالله عليك توقف!.. الصغير سيختنق!.. المكان مغلق»
في حذر نهض عاطف وبدأ يرفع الستار ببطء وهو ينظر حوله. تسرب هواء الفجر البارد للمكان.. صوت أذان قادم من مسجد قريب في مكان ما. لا يوجد شيء..
قال لنجاتي وهو يلهث:
- «سوف تهرع محاسن إلى السيارة، ثم تلحق أنت بها.. ثم سأغلق أنا المحل.»
- «لا وقت لذلك»
- «لن أترك المحل مفتوحًا لأجده فارغًا في التاسعة صباحًا.. هناك لصوص لو كنت قد فهمت هذا»
وسرعان ما هرعت الزوجة إلى السيارة اللادا… انتظر الرجلان ثم أشار عاطف لنجاتي كي يهرع وهو يتواثب على ساقه السليمة.. ثم أنزل الستار الحديدي ووضع الأقفال بسرعة البرق ولحق بالسيارة ليجلس خلف المقود.
برغم أن السيارة معتادة النعاس في هواء الصباح البارد، فإنها ارتفعت إلى المسئولية هذه المرة ودارت… وسرعان ما تراجع الزوج بالسيارة ليغير الاتجاه..
هنا انفتحت أبواب الجحيم..
لقد ظهر رفاق الليل من مكان ما.. كانوا يركضون نحو السيارة، ولم يحتج عاطف لأسئلة كثيرة.. لقد رأى القادمين فعرف أنه لا يجب أبدًا أن ينتظر قدومهم أو يقع في أيديهم..
اندفعت السيارة بجنون تنهب الشارع..
ومن خلفها راحت ثلاثة من تلك الكائنات تركض..
كان فارق السرعة كبيرًا وسرعان ما تركت السيارة مطارديها خلفها، لكن ظل أحد المطاردين يجري بسرعة هائلة.. يجري كالسيارة أو أسرع… كان رشيقًا طويل العظام فارع القامة..
- «كيف يفعل هذا؟»
قال نجاتي بصوت مبحوح:
- «أعتقد أنه كان فهدًا!»
نظر له عاطف في دهشة:
- «هل أنت مخبول؟ عم تتكلم بالضبط؟»
سرعة الوحش القادم مذهلة، وبدا واضحًا أنه سيلحق بالسيارة.. لكن فجأة بدأت خطواته تتراجع.. وبدأ يتعثر.. قد يكون الفهد والشيتا سريعين جدًا، لكن الآلة تتفوق عليهما في نقطة واحدة: القدرة على المثابرة.. العضلات تتعب وتغرق في حمض اللاكتيك فتضرب عن العمل..
هكذا اندفعت السيارة في شوارع المدينة الخالية بعد ما زال الخطر..
لم ينطق نجاتي ولم يعط أي تفسير.. ظل صامتًا بعض الوقت، ثم مال على عاطف الجالس خلف المقود وقال:
- «أنزلني هنا وليرعك الله!»
تساءل عاطف في حيرة:
- «لم تفسر لي… من هؤلاء؟ ما هذا؟»
وكما فعل عم إسماعيل من قبل، قال نجاتي لمنقذه وهو يفتح الباب ويترجل:
- «لا تسأل عن أمور من الأفضل ألا تعرفها.. عد لبيتك وأغلقه عليك، ولو أردت نصحي لاقترحت ألا تذهب لمحل الهاتف لمدة يومين أو أكثر»
وقبل أن يسأله عاطف سؤالاً آخر كان قد توارى في الغبشة المميزة للفجر..
***************
- «هي جنية!»
كان هذا رأي خالد لكن أنيسًا لم ير هذا الرأي.. لا أحد يفكر بهذه البلاهة..
سيارة المراهقين العائدين في الفجر وقد أثقلت الأقراص المخدرة عقولهم. خالد خلف المقود، بينما أنيس جواره وفي المقعد الخلفي ياسر وأكرم.
وفي الشارع الذي بدأ الفجر يزحف عليه كان المشهد الذي لا يصدق. فتاة رشيقة فارعة الطول.. واضح أن جمالها لا يوصف.. والغريب أنها تلتف ببعض الأسمال حول جسدها العاري كما هو واضح..
متسولة؟ هذه ليست ملامح متسولة.. هل تعرضت لتجربة قاسية؟ لا يبدو ذلك على ملامحها ولا مشيتها الواثقة الثابتة.. ربما هي هلوسة جماعية؟
اندفع خالد بالسيارة، وجعل سرعتها مماثلة لسرعة الفتاة التي تمشي على الإفريز ولا يبدو أنها تلاحظ أحدًا..
الأمر يحتاج لتفسير فعلاً. لا جدال في أن الفتاة بارعة الجمال.. وهذه ليست هلوسة..
قال خالد بلهجة تقريرية:
- «جنية.. جنية تبحث عن شباب بلهاء مثلنا»
أطلق ياسر سبة من المقعد الخلفي، وقال إنه لن يترك فرصة كهذه لمجرد أن خالدًا يخرف.. ثم أنزل زجاج السيارة وصاح ينادي الفتاة الغامضة التي تمشي جوارهم وفي نفس اتجاههم:
- «هيه!.. هل تريدين توصيلة؟ نحن هنا كي نقدم الخدمات»
توقفت ونظرت لهم.. هنا ترجل ياسر بسرعة من السيارة المتوقفة وقلبه يدق كالطبل، وفتح لها الباب الخلفي فانزلقت إلى الداخل دون أسئلة أو جدل. انسل يجلس جوارها بحيث صارت بينه وبين أكرم، وبينما السيارة تتحرك من جديد سألها عن اسمها فقالت في شرود:
- «درية»
لاحظ ركاب السيارة المنطلقون نحو ليلة حمراء أن رائحة الفتاة كريهة جدًا، كما لاحظوا أن شيئًا مقلقًا يحيط بها.. شيئًا لا تستطيع الإمساك به.. على العموم كانت هذه نهاية قصتهم..
يُتبع