كلا.. لست مجنونا.. أؤكد لك هذا.
أعرف أن تفسير الجنون سهل دائما، ويريح جميع الأطراف.. دعك من أنه ما من مجنون يعتقد ذلك في نفسه، لكن لنفترض للحظة وجود رجل راجح العقل يعرف مصيبا أنه راجح العقل.
إنها مسألة منطقية ذكرها فيلسوف ألماني اسمه (بوبر). كل ما لا يمكن نفيه لا يمكن إثباته.. عندما أقول إنني غير مجنون فأنت تقول لي إن كل مجنون يزعم ذلك. إذن أين الحقيقة العلمية؟ ما الذي يمكن أن يقوله العاقل إذن؟ ماذا لو لم أكن مجنونا؟
لكن دعنا من هذه التعقيدات ولنتكلم عنهم.
أعرف أن (هم) هذه تزيد الأمور تعقيدا والطين بلة.. هذه نغمة البارانويا بلا زيادة أو نقصان. لكن لا سبيل للكلام عنهم من دون استعمال ضمير (هم).
أنت تشك في عقلي أكثر مع كل دقيقة.. أعرف هذا.. أراه في عينيك.. هذه مشكلة حقيقية عندما نحاول إثبات أننا على ما يرام، فنرتبك ونقول كلاما غير مترابط.
أعيش وحدي.. هذا يجعل شكوكك ترقى إلى مرتبة اليقين.
الحقيقة أنني لا أحب الوحدة.. لكن عندما تتجاوز سن الخامسة والثلاثين وأنت غير متزوج، فإن فكرة الزواج تزداد رهبة وإفزاعا.. أن تقتطع نصف عالمك لتمنحه لامرأة غريبة.. هذا شيء مريع.. شيء مرعب.
يمر يوم تلو الآخر.. وفي النهاية تجد أنك في الأربعين وأن فرصك قد قلت جدا جدا.. دعك من أنك اكتسبت عادات الذئب الوحيد، فلم تعد أية امرأة تتحمل أن تعيش في مكان واحد معك.
الوحدة قاسية فعلا.. تأكل وحدك.. تلعب الشطرنج مع نفسك.. تبدي ملاحظات وتسخر منها.. وفي لحظة بعينها تدرك أنك كنت تكلم نفسك طيلة ربع الساعة الماضي.. هناك أيام تتشاجر فيها مع نفسك أو تسيء فهمها.. لكني برغم هذا أؤكد:
لست مجنونا
عندما تدخل الفراش ليلا وتنظر إلى غرفة الجلوس الخالية، التي تركت فيها بعض المجلات الفنية ملقاة على البساط وهناك جهاز كاسيت به شريط لأغاني (محمد منير).. تدخل الفراش وترفع الغطاء حتى العنق وتراقب شاشة التلفزيون بعينين لا تريان تقريبا.. ثم تنام تاركا جهاز التوقيت يغلق التلفزيون بعد ساعة..
عندما يحدث هذا، وعندما تنهض في الرابعة صباحا بمتاثة ممتلئة.. وعندما تتجه للحمام مارا بغرفة الجلوس، وعندما تجد أن المجلات التي كانت متناثرة على البساط مجموعة في كومة واحدة، وأن الشريط لم يعد في جهاز الكاسيت، وأن هناك أعقاب سجائر في أكواب الشاي.. لاحظ أنك لا تدخن ولا تشرب الشاي.. وعندما تجد أن الغرفة تعبق بالتبغ..
رسوم فواز |
عندما يحدث هذا فأنا لا ألومك.. أنا نفسي فكرت في ذلك.. قلت لنفسي إنني أمشي أثناء النوم. هذه وليمة لأي طبيب نفسي يحدثك عن شخصيتي الأخرى المكبوتة التي تتحرر أثناء النوم.. هذا شيء محتم.
لكن أي تحرر؟ ما الذي يفعله هذا الآخر سوى شرب الشاي والتدخين؟ هذا تحرر لا يحتاج لكل هذه الضوضاء.
على كل حال قد جربت أن أراقب نفسي.. لقد وضعت مقاعد كثيرة ودلاء مليئة بالماء حول الفراش. هكذا أفيق لو ارتطمت بمقعد أو سكبت دلوا.. والنتيجة؟
نعم قلبت دلوا وارتطمت بمقعد خلّف كدمة في ساقي، لكن هذا حدث وأنا متجه للحمام.. وكانت غرفة الجلوس تحتفظ بذات الفوضى.. لقد حدث ما حدث قبل أن أصحو وليس بعده.
هل فهمت المشكلة؟
أضف لهذا أن نفس الظاهرة تكررت عدة مرات.. ربما ثلاث مرات الأسبوع.. أصابني الذعر طبعا لكن ليس لدرجة أن أبيت في مكان آخر أو أبقى ساهرا طيلة الليل.. هناك تفسير بسيط وسوف أعرفه.
الآن يمكن القول بكل شجاعة إن هناك من يسهر في غرفة الجلوس في داري يدخن ويشرب الشاي، وهو لا يحب (محمد منير)، فإذا أضفنا لهذا أنني غير مجنون فماذا نستنتج؟
حان وقت التجربة الإجبارية.. نسيت أن أخبرك أنني مدرس فيزياء وأن عقلي مرتب منظم ومنطقي سليم.. لهذا وضعت عدة خطوات..
الاستيقاظ في وقت غير مناسب.
تصوير ما يحدث خلسة.
سوف أضبط المنبه على الساعة الثانية صباحا.. سوف أنهض وأفاجئ هؤلاء المتسللين وأعرف من هم ومن أين جاءوا.
.......
يُتبع