عاد (ممدوح) إلى داره في ساعة متأخرة من الليل راضيًا عن نفسه.
ها هي ذي (هناء) غافية في غرفة النوم وقد دست الصغيرة (مي) يدها الرطيبة في كفها، وفي يدها الأخرى دبدوبها الصغير.
فلتناما في سلام.. هما لم ترتكبا أية حماقة ولا خطأ.. هما لم تجازفا بمال الأسرة في البورصة ولا تعرفان أي شيء عن الخطر المحيط بهما.
هو يعرف.. وهو سوف يسدد فاتورة أخطائه بالكامل. هكذا نزع ثيابه وارتدى المنامة وجلس في الصالة يفكر في لقائه الرهيب بذلك الرجل الصموت الغامض (أبو هيبة).
من أين يأتي هؤلاء؟ متى ولدوا؟ ما الظروف التي جعلتهم يتحولون إلى قتلة؟ هل لأبي هيبة هذا أسرة؟ هل له أطفال؟ هل كان هو نفسه طفلًا يغفو في حضن أمه؟ مستحيل. بالتأكيد يأتي هؤلاء من أعماق بركان أو من غياهب كهف.. وهم لا ينامون أبدًا ويقتاتون بالدماء.
ـ "هل عدت يا (ممدوح )؟"
صوت زوجته الناعس اللطيف.. تنهض وتفرك شعرها ثم تضع الملاءة على كتفي الصغيرة.. ملاءة هفهافة رقيقة تغريك بالنوم.
ـ "لقد أعددت لك العشاء..صبرًا.. سوف أسخنه لك"
حاول إقناعها بمواصلة النوم لكنها مصرة.. تنهض وتعد له المائدة.. طعام بسيط لذيذ.. علبة من السردين مع رغيفين من الخبز قامت بتدفئتهما في الموقد. كوب من الشاي بالنعناع.
تقول له:
ـ "كف عن الشقاء والتعب.. كف عن تعذيب نفسك.. كما ترى نحن ننعم بحياة طيبة.. لقد تناولنا على الغداء بعض الكشري وكان شهيًا بحق.. الحياة لا تستحق كل هذا التعقيد"
التهم الطعام شاعرًا بأنه قطعة من الحجر.
كفي عن أن تكوني لطيفة من فضلك.. كفي عن الرقة فأنت تجعلين الأمر أصعب.. الليلة أنهيت إجراءات تحويلك من زوجة راضية إلى أرملة ثرية فلا تخذليني. أرجوك لا تفعلي.
ثم ماذا تعرفين أنت عن الحياة؟ عن الفقر؟ لا تعرفين أي شيء على الإطلاق.. مجرد طفلة ساذجة اعتادت أن تجد ما تريد أمامها فلم تعد ترى للمال نفعًا.. أنا اخترت القرار الصحيح.. أعرف أنه القرار الصحيح.
لكن الأمور تزداد تعقيدًا.. الطفلة قد استيقظت.. إنها تضحك في الفراش وحدها.. تنهض الزوجة وتدعوه كي يغسل يده ويلحق بها ليداعبا الصغيرة قليلًا.
قال لنفسه:
ـ "لقد اتخذت القرار الصحيح.. نعم.. لن تنجح هذه الحيل التافهة في تغيير قراري"
وأغمض عينيه ونام راضيًا.
في الصباح جاء النبأ عبر الهاتف.. جاء ليعلن مصيبة حقيقية.
السمسار يبشره أن الأسهم بدأت ترتفع في البورصة.. لو استمر الحال على هذا المنوال فلسوف تستعيد قيمتها خلال أيام:
ـ "لقد نصحتك بألا تبيع والأسهم في الحضيض.. هذا هو الوقت المناسب للانتظار.. لقد تبين أنني على حق"
وضع (ممدوح) السماعة غير مصدق.. هذا ضد كل التوقعات التي قالت إن تلك الأسهم لن تقوم لها قائمة.
جاءت الطفلة تزحف واحتضنت قدمه في رفق، فمد يده يحملها ووضعها على ركبته.. من سمح له بأن يحرمها من أبيها؟ ثم استدرك وعاد إلى صوابه.. ما حدث أمس هو القرار الوحيد السليم.
هنا حدث شيء غريب.. لقد نهضت الطفلة على قدمين واهنتين متخاذلتين ومشت بضع خطوات قبل أن تسقط. (مي) قد مشت اليوم.. اليوم بالذات!
إلا أن الأقدار واصلت سخريتها منه.
عند العصر جاءه هاتف من شريكه السابق، يخبره أن المستورد الروسي يطلب شحنة أخرى من البصل الممتاز الذي قاما بتصديره. هذا يعني.. قام بعمل بضعة حسابات على الآلة الحاسبة وأدرك أن الأمور تتحسن فعلًا.
هكذا مضى الحال في اليوم التالي.. من حسن إلى أحسن.. منذ عشر سنوات لم يظفر بفترة من الحظ الحسن كهذه.
الأسهم ترتفع.. الصفقات تكثر.. زوجته تزداد لطفًا ورقة.. الطفلة تتشبث به.. وتمشي.
هكذا عندما جاء المساء كان قد اتخذ قراره: لقد ارتكبت خطأ جسيمًا.
نزل من سيارته عند ذلك المقهى النائي، ومشى بضع خطوات بحثا عن المائدة التي قابل عندها (أبو هيبة) أمس.
كانت خالية.. لا توجد كومة من لحم الرأس ولا قطط.
نظر بعينين متسائلتين إلى القهوجي وتساءل:
ـ "أين (أبو هيبة)؟"
لم ينظر له الرجل ولم يحاول أن يعرف من هو.. مر بجواره وقال كأنه يكلم الهواء:
ـ "لم يأت منذ يومين"
ـ "وأين أجده؟"
ـ "لا أحد يعرف أين يوجد (أبو هيبة) عندما يختفي.. هو سوف يجدك.. تأكد من هذا"
نعم.. هو سوف يجدك.. (ممدوح) ليس بحاجة لمن يخبره بهذا!!
.......
يُتبع