2010
يحكي الأستاذ هيكل عن أحد أساتذة الصحافة البريطانيين الذي قال له في إحدى محاضراته: الخبر الناجح صحفيًا هو الخبر الذي فيه شيء من المَلكية وشيء من الغموض وشيء من الألوهية وشيء من الجنس.
وابتكر الأستاذ خبرًا يجمع كل هذه العناصر معًا: قالت الملكة: يا إلهي! الأميرة حامل! من فعل ذلك؟
هذا الخبر يحوي الألوهية: يا إلهى.. ويحوي الملكية: ملكة وأميرة.. ويحوي الجنس: حامل.. ويحوي الغموض: من فعل ذلك؟
*******
هناك من رؤساء التحرير المصريين من تعلم هذا الدرس جيدًا، وفي التسعينيات كانت هناك مجلة أسبوعية رائجة لا يخلو غلافها من عناوين مثل: الموساد ومشايخ الفضائيات في غرف الجنس الجماعي، وكلام قد يختلف في كل مرة لكن له هذه النغمة دائمًا! ولعل ذلك المجنون الذي يملأ جدران القاهرة دعاية عن كتابه الألوهية والجنس يملك حاسة صحفية بارعة برغم كل شيء.
حادثة المطربة اللبنانية التي ذبحت في دبي تحوى كل عناصر النجاح الصحفي، ففيها مغنية حسناء وفيها غموض وفيها رجل قريب جدًا من السلطة، وإن كانت خالية من الألوهية على كل حال.
لا يستطيع أي شخص بالطبع أن يصدر حكمه على المتهم لأنه ما زال يُحاكم، وبالتالي هو بريء حتى لحظة إدانته من المحكمة، لكن الصحف والناس قد انطلقوا فى محاكمة علنية جماعية أصدرت أحكامها منذ زمن، والأهم فى الموضوع أن هذه تسلية ممتازة في الصيام.
*******
هناك سمة مهمة واضحة في إعلانات رمضان التليفزيونية لهذا العام: نغمة عالية جدًا تدعو الناس للتقشف والتعقل لأنهم في شهر واحد ينفقون على الطعام ما ينفقونه في عام.. ومعنى هذا الإعلان واضح هو أن العيب فيكم يا في حبايبكم، أما الحكومة فلا ذنب لها وليس بيدها أن تفعل شيئًا.. أنتم تأكلون وتشربون أكثر من اللازم.
أتذكر هنا كلمات د.جلال أمين عن كون الحكومة تلوم المواطن على كثرة الإنفاق على الشاى وكثرة إذابة السكر فيه، فيقول غاضبًا: الناس لابد أن تشرب شيئًا ما.. ومن الأفضل لهم أن يشربوا الشاي من أن يشربوا أشياء أخرى مما يشربها الآخرون الأكثر ثراء.
يلي هذا إعلان عن الآيس كريم ثم إعلان عن السمن، ثم إعلان من حملة تجميل عز الرمضانية المعتادة، ثم إعلان عن الزيت، ثم إعلان يظهر لك بعض المخلوقات التى كانت رجالاً مع دعوة للتبرع لهم فى حساب رقم كذا، ثم إعلان لسداد الضرائب.
وسط هذا الضغط كله يتساءل المواطن عن سبب الحالة الاقتصادية الخانقة.. هل سببها أنه يشرب شايًا أكثر ويحب القطائف، أم سببها ذلك الثراء الفاحش الذى يرى بصيصًا سريعًا منه كلما تعلق الأمر بسقطة لرجل أعمال هنا أو هناك؟ حيث صار من يملك مليونًا أو حتى عشرة ملايين معدمًا أقرب للمتسولين. لغة الكلام اليوم بالمليارات ولا عزاء لمن يتصارع في طابور الخبز، أو يرتجف هلعًا من أن يرتفع سعر كيلو اللحم نحو الخمسين، أو لم يصدق بعد أن الدجاجة الصالحة لطعام أسرة ثمنها ثلاثون جنيهًا. هنا يجد المواطن قصة مسلية تشعره بمدى سوء هؤلاء القوم وفسادهم، وتشعره بأنه على ما يرام.
*******
مهما كان عم بيومي البقال فقيرًا فهو لا يستأجر القتلة لذبح المغنيات اللبنانيات في دبي، وهو مستعد أن يحلف على المصحف أنه لن يفعلها أبدًا.. إذن هو أفضل بكثير. لست من هواة سهرات الشيشة والخيام الرمضانية، لكني أعتقد أن هذه الجريمة هي الموضوع المفضل في كل هذه الجلسات.
الفضيحة كبيرة والقصة بتفاصيلها مثيرة فعلًا، وكما هي العادة كلما تطوعت يد لتكشف جزءًا من غطاء المجرور تنبعث للأنوف رائحة كريهة جدًا؛ حتى نتساءل عما يمكن أن نراه ونشمه لو انفتح الغطاء بالكامل.
شاء الله أن يحدث هذا كله في وقت واحد تقريبًا لنكتشف أن معظم رجال الأعمال يعملون فعلًا، لكن ليس في الأشياء التي يزعمونها:
غرق العبارة
احتكارات
صراعات قذرة
دم فاسد
ذا هو نوع البيزنس الذي يصدعوننا بالكلام عنه
*******
لكن من بين كل تفاصيل القصة يستوقفني بشدة رجل الأمن منفذ العملية. إنه نموذج لنمط صار سائدًا في حياتنا المعاصرة وفي عوالم البيزنس.
منفذ العملية الذي كان ضابطًا في أمن الدولة سابقًا تصرف بشراسة وحماقة لا مثيل لهما.. أعتقد أنه أول مجرم فى التاريخ يبتاع سلاح الجريمة ببطاقة الفيزا، ويصمم على تنفيذ العملية بخنجر مما يستخدمه رجال العمليات الخاصة.. لابد أنه أراد أن يعطى الأمر لمحة سينمائية ما مما جعل تتبع أثره عملًا فى منتهى البساطة بالنسبة لشرطة دبي.. يتم تكليفه بمحادثة هاتفية من هذا الطراز
طرف1: ألو.. إزيك يا محسن؟ عاوزك النهارده ضروري
طرف2: فيه حاجة؟
طرف1: لا.. فيه مهمة هي مسألة حياة أو موت
طرف2: هاجيلك النهارده
الأمر لا يتعلق بشراء اتنين كيلو طماطم ولكن بذبح إنسان خارج حدود البلاد، وفي دولة تعتمد على السياحة بالكامل ولن تغفر أبدًا لمن يمس هذا الشريان الوحيد لديها. وبعد الجريمة الشنيعة ينسى كل شيء، ويخبئ مليون دولار فى البوتاجاز، ويجلس ليسترخي على حمام السباحة في أحد فنادق القاهرة الكبرى، بالتأكيد يفكر في الثراء الذي هبط عليه فجأة.
هذا النمط موجود دومًا حول حمامات السباحة مثل الهاموش.. لابد كذلك من شرم الشيخ فى الموضوع، ولسبب ما تحولت عند هذه الطبقة الجديدة إلى شرم.. لا تقل: الشيخ.. أبدًا وإلا فأنت موضة قديمة من بتوع حرب 73 والعبور وكل هذا الكلام.
ذكرت صحيفة الدستور أن ذلك الضابط زعم للمليونير نجيب ساويرس أنه اُختطف في العراق عندما كان يعمل هناك في شركة عراقنا، فدفع له الأخير الفدية التي بلغ قدرها مائة ألف دولار. هكذا تفتق ذهنه عن البيزنس الجديد الذي يقوم على الاتفاق مع العراقيين على خطف المصريين هناك مقابل فدية، وهذه الفدية يدفعها ساويرس فيقتسمها القاتل مع المختطفين. في النهاية أدرك المليونير اللعبة وفصل الضابط السابق.
إنه عقل نشط لا يكف عن البحث واقتناص الفرص. لو كانوا يسمحون بكتابة كلمة: أفّاق.. أمام خانة المهنة فى البطاقة الشخصية لفعل ذلك.
*******
نعم.. جاءت هذه الجريمة لتكشف عن الكثير، وتوحى كالعادة بأن ما خفي كان أعظم وأننا لا نعرف إلا أقل القليل. جاءت هذه الجريمة لتمنحنا موضوعًا نتكلم فيه بعدما سئمنا الكلام عن هزائم دورة بكين، وبعدما صارت قعدات هزار الفنانين فى رمضان سخيفة مكررة، ولتشعرنا بأننا برغم كل ضرب الجزم الذى نتلقاه أفضل وأحسن.
شكرًا لهؤلاء السادة على كل ما يمنحونه لنا من متع. فقط نرجو أن يرفقوا بنا ويخبرونا فى الوقت المناسب: من المسئول عن حمل الأميرة؟