في نصف الساعة التالي حكى (ممدوح) للرجل الرهيب قصته.. طبعًا استنشق الكثير جدًا من دخان الشيشة وسعل مرارًا وهو يحكي.. لكن (أبو هيبة) ظل يصغي وهو لا يبعد عينيه تقريبًا ولم يتكلم إلا بضع جمل مقتضبة.
القصة معروفة على كل حال.. (ممدوح أحمد) يملك شركة أعمال صغيرة جدًا، وله أسرة جميلة صغيرة مكونة من زوجة محبة وطفلة.. الحياة هادئة منتظمة والربح قليل لكنه ثابت، وهنا جاءه من يُحدِثُه عن البورصة.. الحلم الواعد الوحشي.. هناك كثيرون نجحوا.. هناك من حققوا الملايين في أسابيع.. هكذا ابتاع حافظة وعرف طريق شركات السمسرة، وبالطبع باع كل ما يملك وسحب كل مدخراته.. في النهاية هوت الأسهم إلى الحضيض.. إن من لم تؤذه البورصة في مصر مؤخرًا محظوظ بشكل غير عادي أو هو (تايكون Tycoon ) متوحش الثراء.
البورصة لم تؤذ (أبو هيبة) لأنه لا يثق بهذه الأمور.. لا يثق بالمصارف أصلًا.. لهذا لم يفهم معظم ما قيل.. فقط فهم أن (ممدوح) لم يعد يملك من العالم سوى خمسة آلاف جنيه.
قال (ممدوح) دامع العينين:
ـ "هكذا رحت أرمق أسرتي الهانئة الغافلة وأنا أرتجف رعبًا على مستقبلهم"
نفث (أبو هيبة) سحابة دخان وقال:
ـ "هناك من قتلوا أسرتهم بسبب البورصة.. ألا تقرأ الحوادث؟"
قال (ممدوح) وهو يتحسس شعره الناحل:
ـ "أنا سأفعل العكس.. سأقتل نفسي"
ـ "تنتحر؟"
ـ "ليس بالضبط"
القصة - كما لابد أنك استنتجت - هي أن (ممدوح) قام بعمل وثيقة تأمين لنفسه. في حالة وفاته ستنال زوجته مبلغًا ممتازًا يحميها من الغد.. طبعًا لو قتل هو نفسه فلن تنال مليمًا.. هناك الانتحار الذي يبدو كأنه حادث، مثل سقوطه في النيل أو من فوق بناية، لكن شركات التأمين تشم هذه الألاعيب من بعيد.. لن يصعب على الشركة أن تعرف أنه كان يمر بضائقة مالية وأنه ابتاع بوليصة التأمين وهو مفلس تمامًا.. هكذا يموت هو وتضيع أسرته.
الآن بدأ (أبو هيبة) يفهم.
ـ "تريد أن أقتلك ويبدو الأمر كأننا لم نتفق على ذلك"
ابتسم (ممدوح) وجفف العرق على جبهته وقال:
ـ "مهمة سهلة كما ترى.. سوف تعرف كل أماكن وجودي.. سوف أتيح لك أسهل الظروف الممكنة.. سأمشي وحدي في حي مقفر مهجور.. سأتركك تجرب مرة ومرتين.. فقط يجب أن يبدو الأمر كسطو مسلح.. يجب أن يقتنع رجال الشرطة بهذا"
نظر (أبو هيبة) حوله في حذر، ثم طلب من (ممدوح) أن يرافقه خلف الأشجار.
هتف (ممدوح) في ذعر:
ـ "هل ستفعل هذا الآن؟ لست مستعدًا بعد"
ـ "أفعل ماذا يا أستاذ؟ عم تتكلم؟ تعال معي"
وهكذا غادر الرجلان المقهى إلى منطقة خالية وراءه تناثرت بها الأشجار، وهناك طلب (أبو هيبة) من (ممدوح) أن ينزع ثيابه كلها فيقف بالثياب الداخلية فقط.. أطاعه (ممدوح) المذعور، بينما (أبو هيبة) يفتش الثياب بدقة غريبة، ثم تفقد حذاء (ممدوح) ورفع الفانلة الداخلية ليتفحص بطنه.
رسوم فواز |
هنا أدرك (ممدوح) الأمر.. الرجل حذر ويخشى أن يكون هذا العرض المريب كمينًا.. ربما تنقل المحادثة بالكامل عبر جهاز تنصت إلى الشرطة.. سوف يسجلون قبوله للصفقة، ثم يصورونه قبل التنفيذ ويعتقلونه في اللحظة المناسبة.
أشار لـ (ممدوح) كي يرتدي ثيابه من جديد، وأمره أن يمشي معه بين الأشجار. هذه هي الطريقة المثلى للتأكد من عدم وجود أجهزة تنصت.. تكلم وأنت تمشي.
أشار لـ (ممدوح) كي يواصل الكلام، فقال هذا:
ـ "يمكنك البدء بعد ثلاثة أيام.. الآن سوف أعطيك نصف المبلغ"
ـ "وماذا يجبرني على تنفيذ الباقي؟ قد يكفيني هذا"
ـ "أنت الخسران.. متى قتلتني سوف تجد في جيب القميص باقي المبلغ ومعه جزيل الشكر"
ثم عاد (ممدوح) يشرح شروط الصفقة:
ـ "أرجو ألا تجعلني أعرف ما أنت موشك على عمله.. حاول أن تكون ضربتك مفاجئة.. لا عنف من فضلك"
ابتسامة ساخرة تلاعبت على شفتي (أبو هيبة) وقال:
ـ "هل بعد القتل عنف؟"
ـ "نعم.. أنت تعرف هذا خيرًا مني.. قطع الحلقوم وبقر البطن مثلًا.. لا توسعني ضربًا حتى الموت.. لا تعذيب من فضلك.. الأسلحة النارية مفضلة دائمًا.. وطبعًا لا أريد أن تتركني كفيفًا أو مصابًا بشلل رباعي"
ـ "تريد قتلًا خمسة نجوم"
ـ "بالضبط.. هذا ما أريد.. موعدنا بعد ثلاثة أيام.. سوف أعود من عملي ليلًا في ساعة متأخرة وسوف أضطر للمشي في منطقة مهجورة.. لِنَقُل العاشرة مساء الثلاثاء.. هذا مناسب جدًا"
وقبل أن يفهم السفاح ما حدث، كان (ممدوح) قد دس حفنة من الأوراق المالية في يده وتوارى مبتعدًا بين الأشجار.
.......
يُتبع