قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, July 10, 2021

الصفقة - 1


الرجل كان يُدعى (أبو هيبة).. اسم مُوحٍ فعلًا.

قال له (مصطفى) إنه سيجده جالسًا هناك في ذلك المقهى في الحادية عشرة ليلًا، وهو يفضل مقعدًا هناك في الخلاء بين أغصان الأشجار.. يلتهم طبقًا من الحساء ولحم الرأس والفتّ.. في كل ليلة يأكل ذات الوجبة مؤكدًا أنه (يشقى).. يقولها في نوع من الرثاء للنفس.

بعد هذا سيشرب الشاي الكشري ثم تأتي التعميرة.. هذا هو الوقت المناسب للكلام.

كان (ممدوح) من الطراز العصبي الواهن المتوتر للأبد، لذا لم يستطع بدء المحادثة فورًا.. كانت ساقه ترتجف بلا توقف، وجف ريقه، كما أن قلبه لم يعد يدق ثلاث ضربات متماثلة.. هكذا اضطر إلى أن يجلس إلى أقرب مقعد مصنوع من الخوص المجدول.. وقبل أن يفهم كان القهوجي غير المبالي قد وضع أمامه كوبًا من الماء اتسخ بالشحوم ووقف ينتظر طلبه دون أن ينظر له.

ـ "هل.. هل لديكم عصير ليمون؟"

رسوم فواز

لم يقل القهوجي نعم أو لا بل انصرف على الفور، وظل (ممدوح) ينظر في ثبات إلى ظهر يده التي ترتجف.. كأنه لو رفع عينيه لعرف الجميع ما يريد.

ببطء شديد راح يتلمس طريقًا لنظراته.. أخيرًا سقطت عيناه على (أبو هيبة).. كان يلتهم طعامه في استمتاع وثبات.. رجل يعرف حقوقه كاملة ويحصل على أكثر منها بكثير. تأمل كيف يلقي بأصابع الممبار في فمه غليظ الشفتين، وكيف يمضغ بثبات وتؤدة.. الرجل الذي يتناول كل ليلة عشاء من لحم الرأس ليس رجلًا سهلًا.

يرفع بين أنامله قطعة من اللحم ويلقيها للقطط التعسة المتزاحمة حوله، لكن لا يظهر على وجهه أي تعبير. من السهل أن تصدق أن هذا الرجل قتل عشرين ولم يُقبَض عليه.. عشرين كائنًا حيًا لهم أحلام وآمال وماض وشهوات وأسرار.. أزالهم من على وجه الأرض، وبرغم هذا هو قادر على أن يستمتع بعشائه ويطعم القطط.

كلما نظر له شعر بأنه أمام لغز حقيقي.. ربما قوة تتجاوز فهم البشر.

جاء الليمون الرديء جدًا فشربه مرة واحدة كأنه يشرب دواء ملينًا ثم نهض مترنحًا نحو مائدة (أبو هيبة).. غمغم:
ـ"سلامو عليكو"

ولم ينتظر دعوة بل جلس دون أن يرفع عينيه عن الأرض.

(أبو هيبة) يمسك بماسورة ويدقها دقًا على حافة الطبق ليسيل منها النخاع. يالأعصابه! يمضغ بلا توقف وهو يدرس جليسه بعينين حادتين.

لم يكن (أبو هيبة) يبدو كرجل العصابات أو مطاريد الصعيد لو خطر لك هذا.. كان مجرد رجل قوي البنيان يلبس بذلة صيفية ذات كُمَّين غامقة اللون، كالتي دأب المسئولون عندنا على ارتدائها منذ عقدين مضيا.. رجل خشن لكن لا يوحي بأنه قاتل. فقط يضع على رأسه طاقية بيضاء صغيرة وله شارب رفيع على حافة شفته العليا.. الغريب أنه كان حليق الذقن بدقة شديدة.

قال (ممدوح) وقد شعر بأن غموضه طال:
ـ "جئت من طرف (إبراهيم الأبيض).. يقول لك إن دور الطاولة بينكما لم ينتهِ بعد"

بدا نوع من الفهم في العينين، ثم واصل الرجل عملية المضغ. هذا الرجل لن يتكلم.. سوف يصغي بلا توقف.. لقد اعتاد هذا.. لو لم يرق له الكلام فلسوف يطرده شر طردة أو يضربه لو أصر على موقفه.

قطعة لحم أخرى لكلب ضال أجرب يبصبص بذيله، ثم تجشأ الرجل وأزاح الطبق جانبًا.. وكأنما يرى بقفاه أو يتحرك بعصا ساحر، جاء القهوجي ليضع أمامه طستًا نحاسيًا صغيرًا به ماء وقطعة صابون.. ثم وضع كوبًا من الشاي الكشري على المنضدة المجاورة وبدأ في رفع الأطباق.. وبيد واثقة مسح المنضدة ووضع عليها كوب الشاي... في ثوان لم يعد هناك أي أثر لعملية الافتراس السابقة. وخلال ثوان كان مبسم الشيشة بين شفتي (أبو هيبة) الغليظتين.

بدا الرضا على (أبو هيبة).. كأنه أنجز عملاً ستتقدم به البشرية، ونفث سحابة كثيفة من الدخان وراح يرمق (ممدوح) في حدة متسائلاً.

قال (ممدوح):
ـ "قال لي (إبراهيم) إنك يمكن أن تقدم لي هذه الخدمة.. قال إنك بمثابة أخيه.. لكنه طلب مني أن أعطيك قائمة بالأماكن التي يتواجد فيها الزبون.. تريد صورته كذلك"

ومد يده وأخرج ورقة مطوية وناولها للرجل الذي فتحها بيد واحدة وراح يقرأ بعينيه فقط:
"شركة (الصفا) للتجارة.. باب اللوق.. من 9 إلى 3 بعد الظهر.. المنزل في ....... من السادسة مساء يعمل في حسابات سوبر ماركت ......."

رسوم فواز

قال (ممدوح):
ـ "لم نتفق على السعر"

للمرة الأولى تكلم (أبو هيبة)، وكان صوته هادئًا ككل شيء فيه كأنه كان يتدرب عليه منذ أعوام:
ـ "خمسة"

ـ "خمسة آلاف؟ لكنه قال لي ..."

ـ "خمسة آلاف. وما اسمه؟ أين صورته؟"

قال (ممدوح) وهو يبتلع ريقه:
ـ "اسمه (ممدوح أحمد).. لا داعي لأن أجلب لك صورته.. فأنا هو!"

.......

يُتبع