نظر (محمود شاكر) إلى الشقة المتسعة والتي تكوّمت فيها قطع أثاث قديمة لم يعن أحد بنقلها، وسأل البواب:
ـ هل أنت متأكّد من السعر؟ إنها رخيصة فعلًا.. لا يجب أن أقول هذا، لكن (الحاج) صاحب البيت ليس هنا على كل حال.
قال البواب وهو يتحاشى عيني محمود:
ـ هذه مسألة أرزاق.. وأنت رجل سمح كريم، لهذا تجد هذه الفرص.
ـ وماذا عن هذا الأثاث؟ مَن صاحبه؟ الشقة ليست مفروشة حسب العقد.
قال البواب وهو يعدّ الأوراق المالية:
ـ المالك القديم لم ينقل حاجياته كلها.. هذه الأشياء لك أن تأخذها أو تتركها أو تتخلّص منها.
رسوم فواز |
ثم تذكّر شيئًا فعاد يسأل:
ـ قلت إنك لست متزوجًا يا بك؟
ـ نعم.. أنا مقطوع من شجرة لو راق لك هذا التعبير.. لماذا تسأل؟
ـ صدفة غريبة.. هذه الشقة تجذب العزاب لسبب لا أدريه.. منذ أسبوع عاينها زوج وزوجة لديهما ثلاثة أطفال.. لكن يبدو أنها لم تعجبه.
ـ الأعزب لا يطلب سوى مساحات ضيّقة كما تعلم.. سوف أحضر حاجياتي اليوم أو غدًا.
********
لم أكفّ لحظة عن اعتبار نفسي حيًا أرزق مثلك ومثله.. هذه شقتي.. هذا بيتي.. صحيح أن بعض المضايقات تحدث؛ مثل ذلك الصخب الذي أحدثه رجال الشرطة - وهو مشهد لم أرَه من قبل إلا في السينما - والمرات التي اقتحم فيها البواب المكان ليفتش.. فيما عدا هذا كل شيء على ما يرام.
الآن لا أشكو الوحدة.
إنهم يأتون ليلًا... كلنا نأتي ليلًا لنجلس ونتكلّم.. بعضهم يشرب الشاي ويُدخّن، لكني لم أسألهم قط من أين يأتون بهذه الأشياء.. كيف يمكنك شراء السجائر وأنت بهذه الحالة؟ كيف يمكنك تشغيل جهاز كاسيت؟
المشكلة الوحيدة هي أنهم جميعًا يبدون كما كانوا لحظة الرعب الأعظم.. يمكن أن يتوقف قلبك ذعرًا لو رأيت نظرة الهلع هذه.. لكني أقول لنفسي إنني بالتأكيد أبدو مثلهم.. من حسن الحظ أن المرايا لا تعكس صورنا.. أحيانًا يمكنك أن ترانا وأحيانًا لا، لكننا نظهر غالبًا في الكاميرا، وأعتقد أن لهذا علاقة بطول الموجات التي نعكسها.
رسوم فواز |
إنهم يأتون ليلًا.. ولكننا نتفرّق قبل الفجر.
كل واحد منهم وحيد كذئب.. قضى أيامًا من الحيرة والقلق متسائلًا عمن يأتون ليلًا.. ثم اكتشف الحقيقة في قلب الظلام وهو وحده، ثم صار يأتي ليلًا مثلهم.. لقد صار منهم.
كم عددنا؟ لا أعرف.. هناك وجوه لم أرَها سوى مرة.. وهناك وجوه تأتي كل ليلة.. هناك وجوه لن تعود أبدًا.. وهناك وجوه سوف تأتي.
القادم الجديد شاب وحيد اسمه (محمود شاكر).. أعتقد أنه شاب ظريف مهذّب.. لكني للأسف لا أستطيع نيل صداقته.. الآن.
لقد أحضر أثاثه وحاجياته وبدأت حياة جديدة تدبّ في الشقة، يحاول أن يكون سعيدًا لكنه لن يقدر على ذلك.
سوف يصحو ذات يوم في الثالثة صباحًا.. سوف يقف على باب غرفة الجلوس وينظر لنا ويرمش بعينيه اللتين يغشاهما النعاس.. سوف ينظر لنا فلا يرانا، لكنه يرى الفوضى المادية التي سببناها.. سيشم رائحة التبغ ويرى كوبًا مقلوبًا.
إنه متوتر.. إنه لا يفهم.. يشكّ في سلامة قواه العقلية.
سوف يُكرر هذا عدة ليالٍ.. سوف يُفكر في حلول ثورية.. ربما تقع عيناه علينا عن طريق الصدفة.. ربما يلتقط صورة فوتوغرافية للغرفة الخالية فيرانا على الفيلم.
لن يطول الأمر.. وسرعان ما يجد أنه صار واحدًا منّا ويعتاد أن يأتي ليلًا.
لم أعد خائفًا.. لقد صرت مخيفًا!