الدستور - 24 يوليو 2009
نقدم هنا سجل شرف من نوع خاص، إنها الأعمال التي تنطبق عليها مقولة "سيء لدرجة أنه ممتع" التي يقولها الغربيون عن الأشياء السيئة، لابد أن الأمر لا يخلو من متعة ماسوشية ما ورغبة في عقاب النفس، هي ذات الرغبة التي جعلت الطبقة الوسطى تهيم حبا بـ"شعبان عبد الرحيم" و"اللمبي" فكلاهما سيئ لدرجة الإمتاع.
يحكي الأستاذ "أحمد بهاء الدين" في كتابه (محاوراتي مع السادات) عن الناشر الكبير "محمد المعلم" الذي اتصل به بعد وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر، وكيف طلب منه إعداد كتاب سريع عن نصر أكتوبر.. المهم أن يكون اسمه (وتحطمت الأسطورة عند الظهر). الحكاية أنه بعد حرب 1967 تحركت أجهزة المخابرات وأعداء عبد الناصر ليغرقوا الأسواق بكتاب ليس له ناشر ولا مؤلف معروف، اسمه (وتحطمت الطائرات عند الفجر). الكتاب المذكور يتحدث عن دور المخابرات الإسرائيلية فائقة القدرات في هزيمة 1967، وكان يباع بثمن رمزي في كل مكان في بيروت تقريبًا. كان رأي "محمد المعلم" أن عامل السرعة مهم جدًا.. لابد من طباعة (وتحطمت الأسطورة عند الظهر) بسرعة ليغرق الأسواق، ويتواجد جنبًا لجنب مع الكتاب الثاني عند باعة الصحف باعتباره ردًا عمليًا شديد القسوة والسخرية على (وتحطمت الطائرات عند الفجر). بالفعل اقتنع "أحمد بهاء الدين" بالفكرة - برغم قلة المصادر الخبرية في هذا الوقت المبكر - وأنجز كتابه خلال عشرة أيام.
نيل وفرات |
منذ أعوام أهداني صديق سعودي الكتاب سيء السمعة (وتحطمت الطائرات عند الفجر) وعرفت للمرة الأولى اسم مؤلفه "باروخ نادل". لا يجب أن تكون عبقريًا كي تعرف أن هذا اسم رجل مخابرات إسرائيلي. أحتاج عمرًا أطول كي أسمع عن رجل مخابرات إسرائيلية ليس اسمه "باروخ" وإن كان هناك من يقولون أن هذا اسم مستعار بدوره.
أعتقد أن جزءًا لا بأس به مما ورد في الكتاب هو كلام فارغ. هناك قدر من الحقيقة ولا شك.. نحن تلقينا هزيمة موجعة في 1967 لكن الزمان لا يتوقف عندها، وكما يقول "محمد حسنين هيكل": هناك من يريد سجننا في 5 يونيو 1967 باعتباره نهاية تاريخنا ونهاية كل شئ. فرنسا اُحتلت كلها في الحرب العالمية الثانية، ألمانيا هُزِمت واحتلت كلها واليابان دُمّرت لها مدينتان كبيرتان، لكن الجميع تجاوز الصدمة بينما نحن مصرون على أن كل شيء انتهى ولا سبيل للنهوض ثانيًة. هذا الكتاب يدعي الموضوعية لكنه يحاول جاهدًا أن يقنعك بذلك، والناشر يقول على الغلاف الأخير: "إنها الهزيمة.. ويجب أن نستوعبها".. صحيح أنه ينتقل لضرورة الاستفادة من الدرس، لكن الغرض من الكتاب واضح تمامًا، والهدف أن تفقد ثقتك بنفسك وعروبتك للأبد.
الكتاب يتخذ شكل قصة جاسوسية ممتعة فعلا، تبدأ عام 1954 باستدعاء بطل القصة رجل المخابرات الإسرائيلية ليقابل "فيشل الكبير" مدير المخابرات. الهدف هو أن يعطوه شخصية تركية مزيفة لتاجر سلاح يقيم في باريس ويجري صفقات مع الجيش المصري. يتم تعريف "آرام أنوير" - الاسم الجديد الذي صار له - بشخصيات "زكريا محيي الدين" الذي يذكره بالضباط النازيين، و"عبد الحكيم عامر" وغيره من الضباط.
يبدأ الجاسوس تعامله مع الضباط المصريين.. بعضهم يذكره بالاسم، ويذكر انغماسه في الجنس.. نعم.. القصة تحوي الكثير من الجنس طبعًا بما أننا قريبون جدًا من عوالم "جيمس بوند". يقوم رجل المخابرات ببيع أسلحة لثوار الجزائر، وهذا يدفع السلطات الفرنسية لطرده.. هكذا يتضخم رصيده من ثقة العرب، وهكذا يتمكن من السفر إلى مصر. هناك يقابل "البريجادير صلاح نصر" مدير المخابرات الذي يحاول ضمه إلى صفه. ويتمكن الأخ "آرام" من حضور أخطر العروض العسكرية للطيران المصري بدعوة قائد الطيران "صدقي محمود" نفسه. وخلاصة خبراته هي أن المصريين غير قادرين على استيعاب السلاح السوفيتي الممتاز، وكل طياريهم شهوانيون ينسون كل شيء مع النساء، ومن المستحيل أن تجد في الكتاب كله لفظة (سهرة) أو (ليلة) من دون صفة (حمراء) بعدها. كلهم يثرثر وأسرار السلاح الجوي تتسرب بلا توقف، وهو سلاح جوي يراه الأخ "آرام" أقوى قوة جوية في الشرق الأوسط كأن أمريكا كانت تخدع إسرائيل وترسل لها الطائرات الخردة. بل إن القوة الصاروخية المصرية كانت قادرة على محو إسرائيل من الخارطة. من هزم هذه القوة العتيدة؟ الراقصة المصرية (.......) طبعًا وكل الحسناوات اللاتي سال من أجلهن لعاب رجال الجيش.
تصل الرواية إلى ذروتها في ذلك الحفل الذي أقامه "آرام" ليلة 5 يونيو ودعا إليه كل قادة الطيران المصريين ليسهروا حتى الرابعة صباحًا. السؤال هنا هو: هل كان هناك حقًا حفل ماجن أقامه تاجر سلاح تركي ودعا إليه قادة الطيران ليلة الحرب؟ لم أقرأ هذا في أي موضع سابق.
الآن يقوم الطيارون الإسرائيليون "يورام" و"يونتان" و"بوشي" بقصف المطارات المصرية، ويتصاعد المشهد معبرًا عن نشوة تعمي الكاتب وهو يصف احتراق الطائرات في ممراتها، ومحاولات المصريين البائسة لعمل شيء.
يجلس "آرام" في طائرة الخطوط التركية التي ستغادر مطار القاهرة الساعة التاسعة إلا الربع، وتتأخر الطائرة قليلًا ثم تقلع. هنا ينظر الجميع من النافذة إلى مشهد غريب هو طائرتان حربيتان إسرائيليتان تقصفان المطار والدخان يتصاعد.
"وبعيدًا من تحتهم مرت الطائرات مسرعة، في طريق عودتها نحو الشمال الشرقي، نحو بلد صغير ملاصق للبحر". هذه آخر جملة في الرواية.. لقد قام هؤلاء البواسل بمهمتهم العظيمة وأنقذوا إسرائيل الرقيقة من الغول العربي المتحرش بها.
كما ترى هي قصة دعائية تمامًا ونوع مفضوح من الحرب النفسية، لكن المشكلة في هؤلاء الذين اتخذوا من هذا الكتاب مرجعًا تاريخيًا مهمًا واعتبروه مصدرا يستقون منه معلوماتهم! الخلاصة أنك ستقضي وقتًا مسليًا لكنك لن تنكر عند انتهاء الكتاب أنه من أسوأ ما قرأت وأنه يستحق موضعًا متميزًا في هذا الباب.