منذ طفولتي أعشق كلمة (فالوذج) بما لها من رنين عربي أصيل، خاصة عندما تقرؤها في قصص أشعب الطفيلي، وما توحي به من شيء شهي لا أعرف كنهه.. فيما بعد عرفت أن الفالوذج نوع من الحلوى العربية اللذيذة. لهذا شعرت بنشوة حقيقية عندما رأيت اللافتة المضاءة في ظلام المدينة.. نقوش شرقية لا شك فيها مع عبارة (مطعم فالوذج) بخط فارسي جميل.
قال (ديمتري) وهو يغلق ياقة معطفه المبطَّنة بالفراء، فلا تنس أن حرارة الجو تقترب من الصفر:
- "مطعم تركي.. أعتقد أنك ستحل مشكلتك هنا"
قلت في انبهار وكلماتي تستحيل بخارًا أبيض كثيفًا:
- "الاسم وحده وجبة كاملة"
- "لا أعرف معناه.. لكن يُقال إن المطعم جيد"
منذ جئت إلى هذا البلد وعندي مشكلة مزمنة فيما آكله. كل شيء لحم خنزير أو طُهي مع لحم الخنزير أو مغلف بدهن الخنزير.. لن أندهش لو كان هنا عصير خنزير كما يقول (عادل إمام).. كنت وحيدًا مترددًا متباطئًا في العلاقات الاجتماعية، وربما لم أعرف شخصًا سوى (ديمتري).. فيما عدا هذا لم أكن أفارق النُزل الذي أقيم فيه أبدًا.
عامة يطلق مصطلح (تركي) على كل شخص عربي أو مسلم في هذه البلاد، حتى لو لم يكن تركيًا على الإطلاق، لكني عندما دخلت المطعم ورأيت صاحبه جالسًا يدخن النارجيلة، وسمعت الموسيقى التي تبدو كأنها أسطوانة لأم كلثوم تدور بالمقلوب، وعندما رأيت النادل بشاربه الكث وقامته الفارعة وصوته الغليظ، عرفت أنهم أتراك فعلًا.
هكذا جلست مع (ديمتري) إلى مائدة وضع عليها شرشف أبيض نظيف، مع مزهرية بها ورود وأداة لصب الماء تشبه الدلة الخليجية. جاءنا النادل يقدم لنا القائمة، وكانت مليئة بمصطلحات تركية لا أعرفها. خمن أنني عربي لكن ظلت مشكلة التفاهم قائمة؛ لذا خاطبته بالإنجليزية وسررت لأنه فهمها.
قال (ديمتري) في دهشة:
- "عندما أرى عربيين مثلكما يستعملان الإنجليزية أندهش"
- "هو ليس عربيًا.. العرب والأتراك يختلطون في أذهانكم لكنهم مختلفون تمامًا"
جاء طبقان من الحساء.. شممت رائحته فخمنت أنه يحوي لحم الضأن غالبًا، ثم جاء بعدها طبق مليء باللحم المشوي.. نكهة ممتازة فعلًا.. غير معتادة لكنها تروق لي بشدة.. يبدو أن مشكلتي انتهت.. انتهت إلى أن أعرف قيمة الفاتورة طبعًا، فلربما كانت غلطة عمري هي الدخول هنا.
بعد قليل جاء طبق يشبه حساء الخضر.. أكلنا في حماسة.. وراح (ديمتري) يقول وقد بدأ جبينه يتعرق:
ـ "توابل كثيرة جدًا.. لكن هذا يجعل الأمر رائعًا"
ملأت فمي بالطعام ثم نظرت حولي في المطعم. كانت هناك ثلاث فتيات جميلات يأكلن ويضحكن بصوتٍ عال، وأدركت أنهن من نفس بلد (ديمتري).. هناك واحدة في الوسط بدت لي جميلة بشكل خاص.. طابع الأنامل الطويلة والأنف الطويل والعنق الطويل الذي يميز رسوم الفنان المصري (بيكار). نظرت لي وأشرق وجهها للحظة ثم عادت تحدث صديقتها.
قلت لـ (ديمتري):
ـ "يبدو أن هذا المطعم راق فعلًا"
لكنه لم يرد لأنه كان قد تناول قطعة من العظم من الطبق وراح يتأملها ثم رفعها أمامي وقال:
ـ "طويلة جدًا.. من أي جزء جاءت هذه العظمة؟"
بحثت عن لفظة (ريَش) بالروسية في ذاكرتي فلم أجد.. هكذا أشرت إلى ضلوعي وابتسمت.
قال وهو يتأملها في اهتمام:
ـ "المفترض أن هذا لحم ضأن.. هل رأيت في حياتك خروفًا بهذا الحجم؟"
ـ "هل هناك مشكلة مع السيد؟"
كانت هذه من الساقي الذي وقف خلفي وكان ينظر لديمتري وقطعة العظم. التفتُّ له.. أقسم أن نظرته كانت تطلق نارًا.. سوف يمزقنا إربًا لو لم يَرُق لنا الطعام. سمعت كثيرًا عن مزاج الطباخين الأتراك والإيطاليين الناري، لدرجة قتل الزبون الذي ينتقد طهيهم.
رسوم فواز |
كرر (ديمتري) السؤال فقال الساقي وهو يرفع بعض الأطباق الفارغة:
ـ "إنه.... نوع من الماعز الجبلي.. يشبه الوعل كثيرًا ويعيش في الأناضول"
فهمت.. فهمت..
ومن جديد رفعت عيني فوجدت تلك الحسناء تنظر لي في ثبات.
.......
يُتبع