قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, September 4, 2021

فالوذج - 2


منذ طفولتي أعشق كلمة (فالوذج) بما لها من رنين عربي أصيل، خاصة وأنت جالس في مطعم بهذا الاسم، ترى تلك الحسناء ترنو لك في إعجاب.. نحن الرجال نرنو بإعجاب فتتذمر النساء ويتجاهلننا.. غريب أن تنقلب الآية، لكني لم أتذمر على كل حال.

قال لي (ديمتري) باسمًا وقد لاحظ نظرتي:
ـ "اسمها (رادا)... إنها تدرس الهندسة معي في ذات المعهد.. لو أردت أن أقدمك لها فلسوف أفعل"
ـ "أرجو أن تفعل"

وهكذا نهضنا لنجلس مع (رادا) وصديقتيها.. وعندما خرجنا كانت تتأبط ذراعي في مودة بينما صار الآخرون يمشون خلفنا. كان المبلغ الذي دفعناه للعشاء معقولاً جدًا.. يبدو أن الأتراك قنوعون.

رسوم فواز

بعد يومين خرجت مع (رادا).. لقد صارت تعرف عني كل شيء تقريبًا، وكان أن اقترحت عليّ أن نتناول العشاء في مطعم (فالوذج).. تنطقها بلغتها الكسيحة فتبدو ساحرة.. مضحكة لكنها ساحرة.

تسألني:
ـ "كيف تتحمل الوحدة؟ يقولون إنك لا تخرج أبدًا تقريبًا"
ـ "أقرأ كثيرًا.. إنني لذئب وحيد ولا أنكر هذا، لكن طباعي بدأت تتغير منذ.. منذ يومين!"

الثلج والبخار يتجمد على ياقة معطفي.. ويد (رادا) النحيلة في معطفها الجلدي تخرج من الفجوة التي صنعها ذراعي. في الداخل تنزع (رادا) المعطف.. الثلج يذوب من على أكتافنا ليصنع بركتين صغيرتين عند أقدامنا.. تنورة أنيقة (كاروهات) وحذاء طويل العنق.

نجلس.. الصنف الذي نختاره اليوم لا أعرف كنهه لكنه نوع من اليخنة.. لحم مطبوخ بالكثير من البصل والبهارات.. نأكل في نهم.. أحب مذاق هذا الطعام كثيرًا.. هي كذلك تحبه.

أقسم أنها نظرت نظرة جانبية للنادل وهو يمر بنا.. كأنها تقول له: كما اتفقنا. سألتها وأنا أملأ فمي باللحم:
ـ "هل يعرفونك جيدًا؟"

ترتبك:
ـ "لا.. لا.. إنه لم ينسَني من المرة السابقة.. أنت تقول إنني جمال نادر يصعب نسيانه.. هل سحبت كلامك؟"

الطعام جميل.. لكن.. أنا أمقت الشَعر كأي واحد آخر. شعرة طويلة سوداء التفت حول الملعقة. لماذا لا يلاحظون هذه الأمور؟ هل أخبر الساقي؟ لا.. لا داعي.

كل شيء هنا غريب.. الرائحة.. التوابل الكثيرة جدًا.. لماذا يفرطون في التوابل لهذا الحد؟ أنا جربت الأكل التركي من قبل.. ليس كثير التوابل كالأكل الهندي مثلًا.. ومن جديد هذه العظام الطويلة الغريبة.

كان ذلك الرجل البدين يجلس على منضدة قريبة يلتهم أطنانًا من اللحم المشوي وأصابع المحشو.. يأكل في لهفة ولوعة لا مبرر لهما.. يسيل العرق على جبهته.. يفك ساعته ليتمكن مِن مد ساعده أكثر.. يرفع كأسًا من الفودكا ويجرع ما فيه مرة واحدة.. خاتم مرصَّع بأحجار كريمة لكنها تبدو قبيحة جدًا عليه.. كأن إصبعه مليء بالثآليل الملونة. هذا الرجل مؤهل جدًا للموت بنوبة قلبية خلال أيام.. سيموت سعيدًا على الأقل. الساقي يدنو منه ويخبره بشيء ما فيلقي بالفوطة التي علقها في صدره وينهض معه إلى خارج القاعة.

رسوم فواز

قلت لـ (رادا):
ـ "نمط هذا الرجل لابد أن يعلق الفوطة في صدره كأنه رضيع.. بينما الفوطة يجب أن توضع تحت الطبق لتغطي البنطال"
ـ "لقد انتهى الزمن الذي يراقب فيه الناس بعضهم.. كُل ما تريد كما تريد ما دمت ستدفع الحساب"

هذا الشعور المقلق.. هذا الشعور الغريب.. أشعر بالشعيرات تتوتر في مؤخرة عنقي. أحب الطعام في هذا المكان لكن هناك شيئًا ما لا يريحني.

طبقان من الخضر باللحم.. أملأ ملعقتي بالخضر وأرفعها لفمي.. هنا رأيت شيئًا في الملعقة.. دققت النظر أكثر..
ـ "هل هناك مشكلة ما؟"

تسألني (رادا) فأقول وأنا أتفحص هذا الشيء:
ـ "لا شيء.. لا شيء"

ثم ألقي بالمنشفة في الطبق.. يجب أن ندفع الحساب ونرحل.. الآن.. ولا تسأليني عن السبب.

.......

يُتبع