قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, July 28, 2010

مصحة الدكتور أنطوان - 1

بص و طل – 28 يوليو 2010

نعم.. هي تقع في منطقة جميلة جداً خارج القاهرة، والطريق إليها يوحي بأنك في بلد غربي ما.. الخضرة في كل مكان والورود مع الهواء النقي.. كل شيء معقّم.. كل شيء نظيف.. هناك من بحث بمجهر عن أي شيء يوتّر النفس أو يُرهق الأعصاب، وقام بنزعه بعناية
المشكلة أن هذا بالضبط هو ما يجعل المكان لا يُطاق

لا أحد يشعر بالراحة في غرفة الجراحة.. إنها المكان الأنظف والأكثر تعقيماً بلا شك؛ لكن هذا بالذات يُشعرك بالتوتّر والاختناق.. لا بد من درجة ما من الفوضى والصخَب والتلوّث حتى تشعر بأنك حي وسط أحياء.. تذكر أنهم يبتلعون البكتريا ابتلاعاً في العالم المتقدم حتى يقللوا من سرطان الجهاز الهضمي.. لقد اكتشفوا أن قنواتهم الهضمية معقمة أكثر من اللازم، وهذا -ويا للعجب- أخلّ بتوازن الخلايا وجعلها مستعدة للإصابة بالسرطان.. لا بد من بعض التلوث الصحي.. هذه هي الحقيقة

نعم.. المصحّة جميلة جداً ونظيفة جداً

هذا المدخل قد اجتازته سيارة أكثر من مليونير وأكثر من ممثلة سينما أرهقتها الأضواء، وأكثر من مسئول جاء سراً ليتلقى علاجاً ضد الإدمان

اللافتة الكبيرة تقول "مصحّة الدكتور أنطوان".. اسم هو نار على علم بالتأكيد. الدكتور أنطوان نفسه من أصل لبناني؛ لكنه يعيش في مصر منذ دهور، وأعتقد أنه مُسن جداً

على البوابة الحديدية يقف رجل الأمن ينظر لنا في شك

أخرجت "نادية" الكارنيه الصحفي والخطاب، ففتح الرجل البوابة وقرأ الاثنين، ثم فتح الباب دون كلمة

انطلقت السيارة وسط ممرّ أكثر جمالاً.. الزهور معتنى بها فعلاً، وهناك نافورة أنيقة على شكل سمكة عملاقة تُفرغ الماء من فمها

قالت "نادية" وهي تنظر في فضول
"لا يوجد مجانين.. ألم تلحظ هذا؟"

قلت في ضيق
"لسنا في فيلم لإسماعيل يس هنا.. لا يجب أن تري جنرال نابليون محاطاً بجنوده"

ألم أحدّثك عن "نادية"؟.. يصعب أن تتصور أن أوجد مع "نادية" في مكان واحد؛ إلا لو تصورت أن يتواجد النمس والثعبان في مكان واحد أو القط والفأر.. لو كانت هناك كيمياء بين الأرواح فعلاً؛ فنحن لا نملك ذرة منها

ـ"نادية" في الخامسة والثلاثين، غير متزوجة، على قدر من الجمال؛ لكنها تؤمن أن الرجال مجموعة من الخنازير ضيقة الأفق، الذكي بين
الرجال صار وغداً، أما باقي الرجال فلا خير يرجى منهم، ومن الأفضل تجاهلهم أو إشعارهم بعدم الراحة


أنا أصغر سناً منها؛ لهذا يحلو لها أن تُعاملني كطفل أخرق.. وهكذا تعطي نفسها حرية أن تعلّق على تصرفاتي وتنصحني وتنتقدني أمام الناس.. لذا أردّ ردوداً سمجة.. الخلاصة أن رئيس التحرير عندما جعلنا نقوم بهذه المهمة معاً كان يعذّبنا.. بصراحة، أُفَضّل أن أكون مع حية ذات أجراس على أن أكون مع "نادية" لمدة أسبوع

على الباب كانت هناك تلك السكرتيرة.. ليست حسناء؛ لكنها موحية بالثقة كأنها معلمة واسعة الخبرة.. كيف عرفت بقدومنا؟.. بالتأكيد رجل الأمن على البوابة

هزّت رأسها محيية وقالت بلهجة عملية
ـ"الأستاذة "نادية شاكر" والأستاذ "عصام عبد اللطيف"... جريدة "الحدث"... أنتظركما.. الدكتور أنطوان يعرف بقدومكما كذلك.. مرحباً"ـ

غرفة د. "أنطوان" تقع في نهاية ممر رطب معقّم بدوره يزدان بالتماثيل على الجانبين.. هناك جهاز تليفزيون في الردهة، والعلامة الوحيدة على طبيعة المصحة هي أن التليفزيون موضوع على رفٍّ عالٍ

فتحت الباب وأعلنت عن قدومنا فجاء صوت من الداخل يرحب بنا

والآن أقدم لك د. "أنطوان"، أشهر اسم في عالم المصحّات النفسية في مصر حالياً


إنه مسنّ جداً بالفعل.. هناك درجة من الشيخوخة تجعل كل شيء في الرجل أزرق، لون عينيه، الأوردة الكثيرة على ظهر يديه، أظفاره.. يداه بالذات كانتا غريبتين بجلدهما شبه المدبوغ المشدود على العظام.. هناك مرض روماتزمي يعطي هذا المنظر؛ لكن لا أذكر اسمه للأسف.. حتى بذلته كانت زرقاء وربطة عنقه مثلها؛ مما أعطاه طابعاً أزرق شاملاً

بصوت مرتجف واهن ولَكْنَة أجنبية واضحة رحّب بنا
ـ"عرفت أنكما ستُمضيان أسبوعاً هنا، لجمع القصص الغريبة.. إن "زيدان" صديق قديم، لهذا لم أستطع رفض طلبه هذا.. لكن أصارحكما أنني لا أقبل أي طلب مماثل من أي واحد آخر"ـ

ـ"زيدان"؟.. آه.. رئيس التحرير "محمود زيدان".. نحن لا نناديه بهذه الطريقة- لهذا لم أستوعب أولاً

قلت في كياسة وأنا أمدّ يدي لعلبة التبغ
ـ"نحن نشكرك كثيراً على هذا الكرم.. من المعروف أن اسم المصحة سيرد في التحقيق مراراً، وبهذا نمنحها نوعاً من الدعاية"ـ

تؤ.. تؤ

لمحت الاستنكار على وجهه فنظرت له في غير فهم.. رفع إصبعاً مرتجفاً وقال
ـ"هذه مصحّة نفسية.. التدخين ممنوع منعاً باتاً.."ـ

أعدت العلبة لجيبي في ضيق.. سوف يكون تحمّل هذا صعباً لأسبوع كامل؛ لكني سأدخن في غرفتي كثيراً جداً.. أعرف هذا يقيناً

عاد يقول
ـ"نحن لا نريد هذه الدعاية لأن اسمنا براق بما يكفي.. لكني أرغب فعلاً في قراءة ما ستكتبان.. أريد عيناً أخرى..."ـ

ثم دق الجرس الذي أمامه وقال
ـ"سوف تذهبان الآن إلى غرفتيكما.. ثم يقوم د. "سمير" بإخباركما بخطة العمل العامة.."ـ

ثم اتّسعت عيناه الزرقاوان وقال بصوت كالفحيح
ـ"ثمة أمور خطرة سوف تعرفان عنها في وقتها.. لكن تذكّرا أن هذا المكان ليس آمناً جداً.. خذا الحذر.. هذا ما أستطيع قوله في الوقت الحالي!"ـ

.......

يتبع