يتمتع الناس بدرجة عالية من الجشع سوف تثير ذهولهم، لو أدركوا حجمها الحقيقي. لكنهم كذلك لا يكفون عن الكلام عن الزهد والرضا بما قسمه لهم الله. إن الكفن بلا جيوب والفقير والغني لجثتيهما ذات رائحة العفن.. إلخ.
كنت واقفاً عند الصراف آخذ راتبي، عندما دخل المكان زميل عمل يكبرني بعشرة أعوام، وراح يوقع على كشف الرواتب في اشمئزاز وهو يردد:
«مال حرام كله.. والله لم نعمل بربع هذا المبلغ!»
نظر له الصراف في دهشة وإكبار، وقال إنه لم يسمع قط موظفًا يدلي بهذا الاعتراف الخطير.. لكن زميل العمل واصل الاشمئزاز الزاهد:
«كله مال حرام لا نستحقه!»
الجديد هو أنه كان يقول هذا وهو يعد الأوراق المالية بدقة بالغة، ثم قال في صرامة:
«هناك خمسة جنيهات ناقصة!»
ناوله الصراف الورقة الناقصة، فتفحصها بعناية ثم أعلن أنها تالفة، ويريد أن يستبدلها بورقة سليمة. هكذا أدركت أنه رجل زاهد متعفف عن متاع العالم، لكنه كذلك لا يريد لأحد أن يخدعه. بالطبع سوف يصرخ في وجه أول متسول يقابله في الشارع لأنه يمقت أن يخدعه أحد.
قراءة الإعلانات تكشف لك أسوأ ما في النفس البشرية، فالرجل يريد أن يبيع جهاز تلفزيون عتيق بنفس سعر الجديد لا لسبب سوى أنه يحب نفسه بجنون. وفي أحد إعلانات الزواج قرأت نداء ملهوفًا من امرأة مطلقة: «أريد رجلًا يتزوجني وينفق علي أنا وابني ويبتاع لي شقة فاخرة! أرجوكم».. الإعلان لا يتضمن أي وعد ولا أي تلميح عن مسرات خارقة للعادة تنتظر هذا الملاك الذي سيبتاع لها شقة وينفق عليها هي وابنها. ولو قالت إنها مارلين مونرو لظل الموضوع غريبًا، فلأنها تحب نفسها بجنون لا تريد عريسًا بل تريد شهيدًا.. تريد بابا نويل يحقق لها كل شيء ولا ينال شيئًا.
أما عن موضوع العقارات فكارثة أخرى.. لدي قطعة أرض صغيرة ارتفع ثمنها.. النتيجة هي أنني أحجمت عن البيع لأن كل العارفين قالوا لي إنني سأكون أحمق لو بعتها.. سوف يرتفع السعر أكثر فأكثر.. هكذا انتظرت.. وهكذا تحملت فترات شديدة القسوة وعسرًا ماديًا بالغًا لأن من الخسارة أن أبدد هذه القطعة.
عندما بحثت حولي وجدت كل الناس أو معظمهم يعانون هذه المشكلة. يجد الرجل أنه مفلسا تمامًا وأن ما يملكه من مال موضوع كله في هذه الشقة أو قطعة الأرض تلك.. لا أحد ينعم بما يملكه أبدًا إنما الجميع ينتظرون فرصة أفضل، مذعورين قلقين.. وقد زرت صديقًا لي يمتلك أرضًا في مساحة مدينة القاهرة ذاتها، فوجدت أثاث البيت مهشمًا، والسجادة مثقوبة، فلما جاء وقت الغداء قدم لي كمية شحيحة جدًا، وقال آسفًا:
«معذرة.. الحقيقة هي أنني لا أملك مليمًا، ونحن في ضائقة مالية مزمنة!»
أفهم مشكلته تمامًا.. لا يجرؤ أبدًا على بيع الأرض لأن سعرها سيرتفع .. لديه فكرة مبهمة عن يوم يبيع فيه ويصير فيه ثريًا وينعم بما ادخره، لكن هذا اليوم لا يأتي أبدًا.. لقد صار مكبلًا بالجشع ولن يتحرر أبدًا إلا في القبر. بمعنى آخر لن ينتفع بهذا المال سوى الورثة الذين أرجو ألا ينتظروا ارتفاع الأسعار بدورهم.. في قصة بمجلة ميكي يقول العم الثري (بيسكو) أو (دهب) كما نعرفه نحن: يومًا ما سأنعم بكل هذا المال، وسوف أعوض كل أكواب الآيس كريم التي حرمت نفسي منها طيلة حياتي.
في قصص ألف ليلة يجد السندباد نفسه غارقًا في الديون ويفر من بغداد، ويترك جاريته الحبيبة (الزاهية). يباع قصره ويجري التجار مزادًا على بيع الزاهية.. في كل يوم يتزايد السعر ويضطرون إلى استكمال المزاد غدًا. وفي اليوم التالي تستمر المزايدة وينتهي اليوم بلا نتيجة.. هكذا يكتشف السندباد في سرور أن جاريته لن تباع أبدًا.. سوف تستمر المزايدات إلى الأبد، والنتيجة هي أنه يعود إلى بغداد ليسدد ديونه ويستعيد الجارية الأثيرة لديه.
الجشع.. العاطفة التي تسيطر على الجميع برغم أننا لا نكف عن الكلام عن القناعة، وعن الكفن الذي لا جيوب فيه.