نحن مهمون يا سادة.. لا نشغل وقتنا إلا بعظائم الأمور، ولا نفكر إلا في القرارات المصيرية.. نحن رائعون ونعرف أننا كذلك.. تأمل الروعة وحسن الحظ! كم من واحد عاش ومات دون أن يعرف أنه مهم؟ لكن الروعة الحقيقية تأتي عندما يعرف الشخص الرائع أنه رائع.
هناك ذلك الموظف النحيل الذي يعمل لدينا في الشركة.. اسمه (صلاح) أو (صالح) على ما أذكر.. إنه نموذج للطريقة التي يكون بها المرء غير مهم على الإطلاق.. لا شيء يشغله ولا شيء في عقله الشبيه بعقل ذبابة.
كان هناك اجتماع للمديرين التنفيذيين في الشركة في تمام العاشرة صباحًا.. لم يحضر أحد حتى الحادية عشرة، لكن هذا الصلاح كان هناك في القاعة في العاشرة بالضبط.. إنه دقيق في كل مواعيده ويمكنك أن تضبط الساعة عليه. لكن السبب لا ينبغي أن يبهرك.. السبب ببساطة هو أنه غير مهم على الإطلاق ولا يوجد شيء حقيقي يشغله، لهذا هو دقيق في مواعيده.. من السهل أن تكون دقيقًا في المواعيد عندما تكون نكرة لا يشغلك شيء. الأشخاص المهمون يتأخرون دومًا لأن في رأسهم مليون شيء.
عندما جاء الخبراء الفرنسيون لم يأت معهم المترجم (لأنه مهم هو الآخر).. هكذا خيم الوجوم على قاعة الاجتماع لأن التفاهم معهم مستحيل، لكن (صلاح) أعلن أنه يجيد الفرنسية وبدأ يتفاهم معهم ويترجم لنا وبدا عليهم الرضا.
هذا سهل.. إن عقله خاوٍ أصلًا.. عندما تمتلئ جمجمتك بالفراغ يسهل أن تملأها بالفرنسية والأوردية والمسمارية.. هو غير مشغول بعظائم الأمور، لهذا لديه كل الوقت كي يدرس أشياء تافهة مثل الفرنسية.
عندما طرح الفرنسيون بعض المشاكل المتعلقة بالسلعة التي ننتجها، أبدى لهم بعض الحلول التسويقية.. بدا عليهم السرور والانبهار، وكان أحدهم يجيد الإنجليزية فسألني همسًا:
«من هذا الرجل الذي يكلمنا؟»
قلت له في اشمئزاز:
«موظف صغير عندنا»
بانبهار قال:
«لو كانت هذه طريقة تفكير موظف صغير عندكم فكيف يكون المديرون؟ إنني منبهر بكم حقًا»
لقد أصاب كبد الحقيقة.. إن (صلاح) موظف صغير يستمد حياته ورزقه وآراءه من العظام أمثالنا.
حدث شيء مريع في نهاية الاجتماع، فقد شب حريق بالبناية.. وسمعنا الصراخ.. هرعنا ركضًا خارج القاعة متجهين إلى المصعد، فوجدنا الدخان يعم المكان ولم نعد نرى شيئًا.. صاح صلاح بلهجة آمرة:
«لا تستعملوا المصاعد في حالة الحريق»
ثم كرر الأمر بالفرنسية.. وأمرنا بأن نزحف على البطون.. السبب كما قال هو أن الهواء النقي يكون قريبًا من الأرضية، وهكذا لن نتلقى جرعة سامة من أول أكسيد الكربون. أنا أذكر اسم هذا الغاز لكن لا أذكر ما هو بالضبط.. زحف حتى بلغ نافذة تطل على الشارع فحطمها ليدخل الهواء، ثم عاد ليجري تنفسًا صناعيًا لخبير فرنسي فقد الوعي.
المهم أن المطافئ جاءت وأنقذت الموقف، ووجهوا له عبارات المديح على حسن تصرفه، وقال لي رجل المطافئ:
«لو كان هذا موظفًا عندكم فكيف تفكيركم أنتم؟»
الحقيقة أن (صلاح) هذا يبرهن لي في كل يوم عن الحقيقة: بعض الناس خلقوا ليظلوا صغيرين للأبد.. مهما حاولوا لا يمكنهم أن يرقوا لعقليتنا وبراعتنا وحصافتنا. صلاح يتمتع بعقل خاوٍ تمامًا لهذا يحضر في المواعيد بدقة، ولهذا يجيد الفرنسية أو الروسية لو أردت، ويجد حلولًا سريعة، ويعرف كل الكلام الفارغ الذي يجب أن يلتزم به المرء عند حدوث حريق.. هذا هو شأنه وهذا هو مستواه العقلي بلا أي أمل في التحسن. لهذا ننال رواتبنا الضخمة، ولهذا ينال راتبه الضئيل.. لهذا نحن المديرون وهو مجرد موظف يسهل الاستغناء عنه في أي لحظة.
إن ضيق أفق بعض الناس يثير جنوني حقًا.