عرفت الأديب التركي الرائع (عزيز نيسن) للمرة الأولي في التسعينيات، عندما تكلم عنه (عادل حمودة)، ودهشت لانبهار الساخر العزيز (بلال فضل) به لدرجة أنه زار قبره عندما كان في تركيا. عندما قرأت الرجل وجدت أنه يستحق هذا وأكثر، برغم أن معظم ما قرأت من ترجمات لأعماله رديء غالبًا، لكن مهنة الكاتب تعلمك كيف تملأ ثغرات الترجمة في ذهنك لتجعل الكلام سائغًا
الغريب أن «نيسن» لا يتكلم عن تركيا.. لا أتصور أنه يتكلم عن تركيا بل عن مصر.. فقط هي مصر يستعمل سكانها كلمات مثل (ولك) و(آمان ربي). نيسن لقب اختاره الكاتب لنفسه ويعني (من تكون؟)ـ
ولد عزيز نيسن لأب فلاح من الأناضول عاش في استانبول، حيث تزوج فلاحة أخري من الأناضول. ولد عام 1915 في جزيرة (هيبلي أضا).. يقول إن زمان ومكان ولادته غير مناسبين البتة، لأن هذا كان في ذروة الحرب العالمية الأولي وفي أغني بقعة في تركيا، حيث يحتاج الأثرياء إلي فقراء يخدمونهم مثل أسرة نيسن. توفيت أمه شابة تحت وطأة ظروف الفقر وكذا توفي إخوته الأربعة. يقول: «الإنسان الذكي هو الذي يصير كاتبًا في دولة اشتراكية، وتاجرًا في دولة رأسمالية». حبًا للمخالفة صار نيسن كاتبًا في دولة رأسمالية. اضطر لدخول المدرسة العسكرية السبيل الوحيد لأبناء الفقراء، وفي هذا الوقت بدأ كتابة الشعر حتي تلقي نصيحة من شاعر تركيا العظيم «ناظم حكمت» بأن يجرب كتابة شيء آخر!. بدأ يكتب قصصًا محزنة دامعة، لكنه لاحظ في دهشة أن كل من يقرؤها ينفجر في الضحك. «عندما أطلقوا علي لقب الكاتب الساخر، لم أعرف قط ما معني الأدب الساخر.. لكن خلاصة ما تعلمته هو أن الهزل عمل جدي جدًا !». عمل في مهن كثيرة وكتب بأسماء مستعارة ودخل السجن مرارًا بسبب لسانه السليط. وبرغم حصار الحكومة له فقد ظل يفوز في المسابقات الدولية مرارًا. رحلة حياته حصيلتها 75 كتابًا و2000 قصة قصيرة وترجمت أعماله لخمس وثلاثين لغة. وقد خصص ريع كتبه لدار لرعاية الأيتام في استانبول، وعاش حياة عادية أو أقل من العادية. ذات مرة حسب سائق سيارة أجرة أنه يجول بين الناس ليجد المادة الأولية لكتبه، فقال نيسن: «من انحطاط الأخلاق أن تعتبر معاناة الناس مادة أولية للكتابة. أنا أحب أن أبقي بين الناس لأنني من الناس وإليهم، مثل السمكة التي لا تستطيع الحياة من دون ماء». كانت هذه كلماته الأخيرة قبل أن يموت عام 1995
اخترت أن أحكي لك ثلاث قصص له، وأترك لك إجابة السؤال عن سبب ازدهار شعبية الرجل في العالم العربي إلي هذا الحد
في القصة الأولي هناك رجل يصرخ في الشارع: يا بوليس !... الحقوا
طبعًا لا أحد يبالي به، لهذا يهرع إلي أول رجل شرطة يلقاه ليخبره أن هناك رجلاً يُقتل في الخان القريب. يرفض الشرطي التدخل لأنه من شرطة المرور. يجرب بطل القصة رجل شرطة آخر لكنه يرفض لأن هذا ليس اختصاصه.. إنه مختص بجوازات السفر فقط.. الشرطي الثالث الذي يستغيث به هو من شرطة الوزارات.. كلما استعان برجل شرطة وجد أنه مختص بشيء آخر: مكافحة السرقة.. شرطة البلدية.. مكافحة التهريب.. ينصحونه بأن يجد رجل شرطة من الشعبة الثانية
عندما يجد رجل شرطة من الشعبة الثانية، يكتشف أنه في أجازته الرسمية
هنا يدنو أحدهم من الرجل المستغيث وينصحه بأن يقف فوق منصة، ويصيح: «ما هذا العار؟!»ـ
قرر الرجل أن يجرب هذه الطريقة. صعد إلي مكان عال وصرخ
ـ «يا للخزي !.. يا للعار»ـ
في اللحظة التالية انقض عليه عشرات الأشخاص ودفعوه أمامهم. تبين أن الشارع يعج بهم.. إنهم رجال الشرطة السياسية المدنية. الطريف أنه يجد من بينهم الرجل الذي نصحه بأن يصيح (يا للعار!)ـ
وهكذا يجد صاحبنا نفسه مجرورًا من قفاه.. يرى علي الرصيف جثة الرجل الذي كان يستغيث من أجله غارقًا في دمه. يقول الشرطي الذي يجره
ـ «الجريح لوث الرصيف بدمه.. سوف أحرر له مخالفة بعد أن أسلمك لقسم الشرطة!»ـ
في مصر ينصحون من يجد نفسه في خطر والشرطة لا تستجيب، أن يبلغهم بأنه يرى في شارعه عددًا من الشبان الملتحين يهتفون: «إسلامية إسلامية». عندها سوف تحلق طائرات الهيلوكوبتر وتعوي سيارات الدورية ويمتلئ الشارع ببوكسات الأمن المركزي و(الهدف تحت السيطرة. حول).. طريقة لا تفشل أبدًا
القصة الثانية تحكي عن مجرم خطير هارب اسمه (حمدي الفيل). مديرية أمن استانبول ترسل لمديريات الأمن قائلة: «تمكن هذا المجرم الخطير من الفرار منتهزًا فرصة نوم اثنين من رجالنا بسبب سهرهما الطويل في حراسة كوخ المراقبة الذي يحرسانه. المحتال في الخامسة والثلاثين، وزنه مائتا كيلوجرام وله ضرس محشو، ويلبس ثيابًا ذات خطوط، وله وجه مستدير وعينان بلون القهوة وهو أشقر اللون. نرجو التفضل بإبلاغه أننا ننتظره بفارغ الصبر، ونأمل ألا يطيل انتظارنا له فيمر علي مديرية الأمن في أي وقت خال من ضغط العمل»ـ
ننتقل إلي رجلي شرطة يراقبان رجلاً يشرب السحلب. يشتبهان في أنه هو حمدي الفيل وإن كانا عاجزين عن العثور علي صورته التي معهما. يصطحبانه للمخفر ليراه المفوض. وفي مقهي في مكان آخر يشكو رجل أمن من أنه قبض أمس علي ثلاثة حمدي الفيل لكن أيًا منهم لم يعجب المفوض. هناك رجل يشك فيه برغم أنه نحيل.. لكن هذا متوقع من رجل لا يأكل ويبيت في البراري. الأدهى أن الرجل اسمه حمدي.. هكذا يقبض عليه شاعرًا بالنصر. وفي مكان آخر يقبضون علي رجل فمه مليء بأسنان صناعية.. السبب أن الأوراق نسيت بالتأكيد أن تذكر أن أسنان حمدي الفيل صناعية. هكذا خلال يوم تم القبض علي 14 حمدي الفيل يلبسون ثيابًا ذات خطوط. وثمانية بضروس محشوة.. «نرجو إعلامنا إن كان هذا المقدار كافيًا أم ينبغي مواصلة البحث». هناك مديرية أمن قبضت علي دستتين من حمدي الفيل تتراوح أوزانهم بين 180 و200 بسبب عدم دقة الميزان القباني المستخدم. كلهم لعيونهم لون القهوة مما يجعلهم جميعًا حمدي الفيل. هكذا ردت مديرية أمن استانبول بأن الأماكن قد امتلأت بحمدي الفيل، لذا يتم الاكتفاء بالعدد الحالي مع الشكر
القصة الثالثة تأخذ شكل خطاب استرحام وندم يكتبه للمحكمة الأمنية العليا صحفي معتقل في سجن (ماماك) العسكري. يقول في الخطاب: «بعون الله رب العالمين توصلت إلي قناعة بأن ما يقوله رجال دولتنا هو عين الحق والصواب، وسأظل طيلة حياتي مقتنعًا به». وتتوالى عبارات الاعتذار: «أتراجع أيضًا عن شكواي القائلة بأن ما أخذ مني من اعترافات تم بالتعذيب.. وأقول إنه في المكان المضروب تنبت الورود. وإنني لأطلب المغفرة من الذين ضربوني من أجل تأديبي، لكنني كذلك أعترف بأنني لم أضرب أو أعذب. أقسم بشرفي ووجداني أنني لن أقوم بالحركات الطفولية التي كنت أقوم بها كلما ظهر علي شاشة التليفزيون أحد المسئولين الكبار، بحركات من يدي وإخراج لساني وسخريتي منه، وسأبلغ عن أي شخص يقوم بحركات مماثلة لدى أقرب مخفر... وأقسم بالله أنني لن أفكر أبدًا وبشكل قاطع في كيفية إفلاس ست عشرة حكومة علي مدى تاريخنا.. إنني نادم علي كل خطأ اقترفته.. يا سيدي المحترم أطلب إخلاء سبيلي من السجن مقابل ما سأقدمه من خدمات لهذا الوطن، وأطلب أن تجروا جراحة لوجهي حتي لا يعرفني الأعداء ولا الأصدقاء.. أرجو كذلك أن تتكرم الجهات المعنية بتبديل أعضاء جسدي وتحويلي لأنثي، وبذلك سأصير مواطنًا شريفًا أمينًا مطيعًا..»ـ
وفي النهاية يشعر بأن هذا غير كاف فيقول: «يا سيدي المحترم.. لا أطلب فقط تغيير اسمي وجسمي وأصلي.. بل أطالب أيضًا بتغيير وجداني إذا كان هذا ممكنًا.. مع خالص الشكر يا سيدي !»ـ
هذه ثلاث قصص قصيرة من 2000 قصة كتبها نيسن