أود أن أشكر م.خالد فايد لتنويهه عن مقالات د.أحمد خالد توفيق فى مجلة الشباب.. حيث لم أكن على علم بها
=========================
لم يترك لنا الدكتور (محفوظ) إلا هذا الصندوق في قبو داره.. الصندوق يحوي مذكرات وملاحظات عن تلك القصص الغريبة التي مرت به في حياته.. تعالوا نفتح الصندوق الآن.. تعالوا نشعل شمعة تبدد ظلام القبو ونطالع واحدة من تلك القصص
الرعب ؟.. تريد أن أكلمك عن الرعب؟.. هل تدرك حقا أن هناك أنواعا منه لا يستطيع القلم ولا اللسان التعبير عنها ؟.. هل تدرك أن رعب المقابر والساحرات الشريرات واللعنات التي دفنت في جوف الموتي,, ليس هو الرعب الأكثر تأثيرا ؟
إن أسوأ الرعب هو التغيرات التي تحدث لأجسادنا أو لعقولنا. التحلل البطيء الذي يذكرك بتعفن الموت. لهذا يحمل مرض الجذام تلك الذكرى السيئة في وجدان البشرية, ولهذا يهاب الناس الصرع برغم أنه مجرد زيادة في كهرباء المخ. هناك رعب لا يمكن وصفه, وفي رأيي أنه يفوق أي رعب آخر : إنه العجز عن النوم.
يبدو الأمر سهلا في البداية.. لكنك تكتشف مع الوقت أنك دخلت دائرة جهنمية. النوم لا يستدعى ولكن يأتي عندما يريد ذلك.. عندما تشرب كوبا من الحليب الساخن وتدخل الفراش الذي يبدو مريحا, وعندما تغمض عينيك وتسمع زوجتك تغط بصوت عال ـ ككل كائن نقي الضمير ـ وعندما ترتقب النوم, تكتشف الحقيقة المروعة : النوم لا يأتي أبدا عندما ننتظره.. متابعة التفاصيل العصبية وتدفق موصلات النوم ومادة السيروتونين في المخ.. هذه المتابعة تجعل النوم يطير من عينيك.. تتقلب..
تحاول التفكير في أشياء كثيرة.. ذكريات اليوم. ذكريات الماضي.. ما ينتظرك غدا.. ثم تكتشف أنك مازلت يقظا وأن التنميل يغزو ذراعك اليمني, فتنهض وتتقلب.. لابأس.. هذا وضع مريح أكثر.. ربما تنام الآن.. المزيد من تدفق الذكريات وصوت الغطيط. أنت الآن في الماضي.. تقابل أشخاصا رحلوا أو ماتوا وتتبادل معهم كلمات, وتعتذر عن أفعال ارتكبتها منذ زمن.. تفيق للحظة فتدرك أن الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وأنت لم تنم بعد..
لقد صارت ذراعك اليسرى منملة.. تحاول النوم علي ظهرك.. وتفتح عينيك لتنظر للظلام المسطح فهذا يساعد علي النوم كما يقولون, لكنهم نسوا أن الظلام يصلح كلوح كتابة.. كما في المدرسة تكتب ذكرياتك بالطبشور علي الخشب الأسود, وتمر ساعة ثم تفيق لتجد اللوح مليئا بالكتابة, وتدرك أنك لم تنم بعد..
تذهب للحمام لإفراغ المثانة.. تعذبك فكرة أن الجميع نائم يستعيد توازن جهازه العصبي.. الكل يحلم ويخرج رغباته المكبوتة بشكل رمزي, بينما أنت تحتفظ بكل هذا السواد. الأرق نوع من الإمساك العصبي.. لا يمكن تفريغ أحشائك العصبية من ذكرياتها المؤذية مهما حاولت. يبدو أنني بدأت أخرف..
الفراش ـ بعد كل هذه الحركات ـ لم يعد يرحب بأحد. الصورة المنظمة الموحية بالاسترخاء ولت للأبد لتتحول إلي أرض حرب معادية.. مائة ثنية في الملاءة ومائة تجعيدة والوسادة لن تعود أبدا لوضعها القديم. كأنك تحاول النوم في أرض تدريب مدرعات.
في الخامسة صباحا يتسلل نور النهار البكر حديث الولادة إلي الغرفة, وتدرك أن كل شيء صار حقيقيا.. لقد غاب الظلام وغابت الظلال, ولم يعد الحلم ممكنا..
من جديد تذهب للمطبخ وتشرب كوبا من اللبن البارد, علي أمل أن تظفر بساعة أخرى قبل موعد العمل.. العصافير تسخر من عجزك فوق كل أشجار الشارع.
من جديد تتقلب ألف مرة, وتدعو الله أن ينقذك من هذا الجحيم, فتأتي النجدة علي صورة يد حازمة تهزك :
محفوظ .. محفوظ !.. حان الوقت!
أنت الآن تواجه العالم من دون السلاح الوحيد الذي وهبه الله للإنسان, وأنقذه من براثن الفهد وأنياب الأسد وسم الأفعي.. السلاح الذي جعله يحكم كل الكائنات ويغزو الفضاء : العقل..
لم يعد لديك عقل. كل شيء زائغ ماسخ اللون.. كل شيء مزدوج.. كل قرار صعب حتي رفع كوب الشاي لشفتيك يبدو بحاجة لتفكير وتمحيص...
الأرق رعب لانهاية له.. ألا ترى هذا معي ؟
يتكرر هذا السيناريو عدة ايام, فتطلب رأي د. مصطفي. لايبدو أن لديه حلولا معينة عميقة. فقط يخرج روشتة طبية عليها توقيعه ويكتب لك بعض العقاقير. لا شاي ولا قهوة بعد الخامسة عصرا.. جرب أن تعد غنمك.. جرب أن ترغم عينيك علي أن تفتحا في الظلام.. لا مجهودات عنيفة في المساء حتي لا يتزايد الأدرينالين.
تبتلع الأقراص وتدخل الفراش.. لكن الكارثة تحدث لك من جديد.. أنت تنتظر النوم.. لاشيء يحدث.. نفس السيناريو الأليم كالعادة. لقد مر أسبوع كامل وأنت لا تنام حرفيا. زوجتك تؤكد أنها تصحو أحيانا في الليل فتجدك نائما بعمق, لكنك لا تصدق هذا.. هي لا تصحو أصلا منذ أن تدخل الفراش في منتصف الليل حتي السابعة صباحا, فمتي رأت أنك نمت ؟ ولو كان هذا صحيحا فكمية النوم غير كافية وغير مشبعة. يقولون إن عليك أن تدخل مرحلة النوم المتناقض وأن تحلم حتي يصير النوم ذا جدوى.
في اليوم الثامن نهضت في الثانية بعد منتصف الليل. اتجهت للمطبخ لتشرب المزيد من اللبن, ثم فجأة خطرت لك الفكرة. اتجهت لتلبس ثيابك في صمت تام حتي لا توقظ أحدا.. السويتر الأسود ذو ياقة الفراء يبدو مناسبا لهذا البرد..
في صمت مماثل انغلق باب الشقة خلفك, وهأنت ذا تمشي في الشارع الخالي البارد. لاصوت سوى نباح الكلاب من بعيد وصوت سيارة يركبها شاب مجنون متهور. تمشي وأنت تراقب ظلك الفارع الممتد أمامك علي الأسفلت...
كنت تعرف أن هناك انترنت كافيه يظل مفتوحا طيلة الليل علي بعد شارعين, وهكذا وقفت أمام المحل المغلق الذي يحيط به زجاج أسود معتم. أزحت الباب الزجاجي الثقيل ودخلت.
بالداخل كان المكان معتما ماعدا الضوء الأزرق من بعض الشاشات. لايوجد الكثير من الأشخاص طبعا.. من هو هنا مدمن إنترنت حقيقي أو ليس له مكان آخر يقصده.. هناك نحو ستة فتية في عمر ابني يجلسون أمام الشاشات, ويبدو أن منظري وتقدمي في السن أثارا دهشتهم..
جلست أمام شاشة فدنا مني رجل له شارب رفيع منسق بعناية, وقد بدا مرتبكا لايعرف كيف يتعامل مع ديناصور مثلي. لكني لست جاهلا لهذا الحد.. أعرف بعض المعلومات عن التعامل مع هذه الصناديق الذكية.
ـ هل تشرب شيئا؟
طلبت بعض النسكافيه.. فلم أعد أخشي السهر. الشاه لا يضيرها سلخها بعد ذبحها. وهكذا رحت أرشف السائل الساخن وأنا أتفقد بريدي الإلكتروني.. ثم بدأت أبحث عما تقوله شبكة المعلومات عن الأرق.
هنا سمعت الباب ينفتح, ودخل رجل في الخمسين من عمره يلبس معطفا ثقيلا. كان أصلع الرأس له عينان بلون السماء المكفهرة. ازداد ارتباك صاحب الكافيه فهو لايتوقع زيارة متقدمي السن مثلنا. الناس في هذه السن يجلبون المتاعب أو هم من مباحث المصنفات... جلس الرجل أمام شاشة كمبيوتر جواري ونظر لي للحظة ثم ابتسم ومد يده مصافحا :
حسين العدوي.. محاسب.. أعتقد أنني هنا لذات الأسباب التي أحضرتك .. الأرق. أليس كذلك ؟.. أم لعله شجار منزلي؟
قلت له إنه الأرق وتمنيت أن يصمت..
بعد دقائق دخل رجل في الخمسين له لحية قصيرة شائبة تلتف حول فمه بطريقة (دوجلاس) المعروفة, ويلبس بذلة كاملة. لكن من الواضح أن صاحب الكافيه يعرفه لأنه رحب به. كان يسميه أستاذ (مينا)
جلس الأستاذ (مينا) علي الناحية الأخرى بحيث صرت أجلس بينه و(حسين). وتبادلنا النظرات.. يمكن بلا كلام كثير أن ندرك أننا جميعا نمر بذات المأزق..
قال الأستاذ مينا :
ـ هل لعب أحدكم لعبة (طريق الحرير) ؟
قلت ضاحكا إنني لا أعرف شيئا عن هذه الأمور, وإنما أتركها لابني.. لكن الرجل ضحك واقترح أن أحاول تعلمها.. إنها مسلية جدا وسوف تكون خير رفيق للملعونين العاجزين عن النوم مثلنا.
ـ أنا ألعبها منذ شهر.. لكن مع أشخاص عبر العالم
هكذا بدأ يشرح لنا اللعبة المعقدة, ولكن ما بعث النشوة في هو أن أرى كل هذه الأسماء.. هناك من يجلس أمام الكمبيوتر الآن ويلعب في اليابان.. في الأرجنتين.. في جنوب أفريقيا.. في كندا.. ترى كم من هؤلاء عاجز عن النوم مثلنا ؟
بدأنا نلعب, وكل منا يجلس أمام شاشته.. وراح الوقت يرمح كالجياد. وكنت سعيدا لأنني لست الوحيد.. لي رفاق في تعاستي هذه..
عندما تسلل ضوء النهار عبر فرجة الباب نهضنا وتثاءبنا, وأصر (حسين) علي أن يدفع هو هذه المرة علي ان أدفع أنا غدا .. سألته في جزع :
ـ من أين تعرف أننا سنكون هنا غدا ؟
ابتسم وقال دون أن ينظر في عيني :
ـ لا أحد يشفى.. أليس كذلك ؟
كانت نبوءته صادقة تماما.. في اليوم التالي كنت هناك, ووجدت الرجلين هناك.. يالها من لحظات أمام الشاشات وسط ظلام الكافيه !.. كأننا لم نعد نستطيع الحلم فصنعنا لأنفسنا عالما صناعيا من الحلم..
فقدت القدرة علي عد الأيام. لا أذكر كم يوما ذهبت الي هذا المكان, ولا كم من النقاط أحرزتها في تلك اللعبة, ولا كم من النقود أنفقت علي شراء (السيلكات) كما يسميها الشباب. من الغريب فعلا أن تستلب هذه الألعاب من في سني, لكن هذا حدث وبدأت أعرف أن ابني ليس أحمق جدا.
الي أن جاء يوم كنت أجلس فيه أمام التليفزيون مع الأسرة, وكنت أستعد لليلة أخرى سوداء.. كان الفيلم يظهر أسرة سجنت في بيت يحترق, وهذا أثار قلق زوجتي, فقالت لي بشكل عابر :
ـ موضوع بوابة البناية هذه.. لا يمكن أن نعتمد علي إيقاظ البواب لو حدث مكروه. يجب أن تستنسخ لنا مفتاحا أو اثنين.
لم أستوعب كلامها فعدت أطلب أن تكرر ما قالت:
ـ أنت تعرف أن بوابة العقار الحديدية تم تغييرها ولم نحصل علي المفتاح بعد. من يرد مغادرة البناية أو العودة لها ليلا لابد أن يوقظ البواب ليفتح له, أما في النهار فالبوابة مفتوحة..
هنا نظرت لها في ذهول :
ـ هل تعنين أنه لا أحد يغادر البناية او يعود لها ليلا إلا بواسطة البواب ؟
ـ ماذا حل بك ؟.. طبعا أنت تعرف هذا..
ـ ومنذ متي ؟
ـ منذ أسبوع.. أنت تكاسلت عن طلب نسخة من المفتاح.. كما تكاسلت عن استرداد السويتر الأسود ذي ياقة الفراء من المغسلة منذ أسبوعين!
نهضت مذعورا وارتديت ثيابي بينما هي لا تفهم ما دهاني, وغادرت البيت ورأسي يوشك أن ينفجر. الساعة لم تتجاوز العاشرة مساء لكن البوابة مغلقة فعلا, وهكذا دققت باب البواب ليفتح لي.. قال لي وهو يبحث في جيبه :
لقد استخرجت لك نسخة من المفتاح يادكتور
لم أسأله أسئلة أكثر , وغادرت البناية ومشيت مسرعا نحو النت كافيه. أزحت الباب الزجاجي لأدخل عالم الظلام المتألق بالداخل. ورأيت الشاب ذا الشارب الرفيع.. اطمأننت قليلا لكنه باغتني بسؤال بسيط :
ـ أي خدمة ؟
لايعرفني.. لا يعرفني علي الإطلاق.. وهكذا غادرت المكان ورأسي يطن كعش النحل.. أنا لم أغادر البيت في أية ليلة.. لم ألبس السويتر ذا الياقة الفراء.. لم أذهب للنت كافيه.. الهلاوس الناجمة عن الأرق هي التي جعلتني أفعل هذا.. كنت في فراشي أرى نفسي ألعب (طريق الحرير)..
لكن لحظة.. لماذا أعرف تفاصيل اللعبة وطريقة لعبها ؟.. أين تعلمت هذا كله ؟ لقد راجعت كل المعلومات مع ابني فوجدت أنني أعرف اللعبة فعلا..
بعد شهر كنت في المترو عندما رأيت (حسين العدوي) !.. كان يقف هناك ينتظر المترو وقد بدا عليه الإرهاق. دنوت منه ونظرت له في لهفة فنظر لي.. هل تذكرني ؟.. كنت زميلي في لعبة (طريق الحرير) لمدة أسبوعين كاملين..
هز رأسه وقال وهو يراقب المترو القادم بضجيجه المميز :
ـ نعم أذكرك بشكل ضبابي.. لكن الحقيقة التي يجب أن تعرفها هي أنني لم أخرج من بيتي ليلا قط.. لم يخرج أحدنا من بيته قط.. لو تمسكنا بشيء من الخيال, لقلنا إن المؤرقين المعذبين يتحرر جزء من وعيهم.. وكانت هذه الأجزاء تلتقي في النت كافيه لتمضي الأمسية, بينما هم لم يفارقوا فراشهم قط.. فكر في الأمر كذلك أو لاتفكر فيه.. لايهم.. تحرك بسرعة لأن أبواب المترو توشك أن تنغلق.