قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, July 3, 2010

بلا تحيز



أبوه كان معلمًا في ذات المدرسة، ومنذ اليوم الأول عرف صاحبنا أنه شخص غير عادي وأنه متميز بين باقي الطلاب. كان أبوه يمر على الفصل في أثناء الدرس ليحيي زميله هذا أو ذاك، ثم يشير لابنه ويقول:
«هو ابنك كما أنه ابني.. أريد أن تلقنه درسًا وأن تحطم دماغه إذا اقتضى الأمر»!

فيهز الزميل رأسه أن سمعًا وطاعة. هكذا كان طلاب الصف يخطئون في هجاء كلمة (استثنائي) أو ضرب 316 في 789.. يتلقون اللوم جميعًا، لكنه هو بالذات يتلقى علقة ساخنة.. يقول له المعلم وهو يلوي أذنه حتى ليوشك على اقتلاعها من مكانها:
«أبوك طلب منا أن نعاقبك بقسوة.. وأنا بهذا أقدم له خدمة»

كان أول درس تعلمه هو أن الحرص على العدل وعدم التحيز قد يدفع الناس لأقسى أنواع الظلم! ولكم تمنى لو عومل كزملائه في الصف الذين ليس لهم آباء في نفس المدرسة.

كان يتشاجر مع زميله الطفل فيسدد له لكمة ويرد زميله بمثلها، هنا يهرع الصبي الآخر إلى أبي صاحبنا يشكو له ابنه الذي ضربه.. يكون رد فعل الأب عنيفًا جدًا ويعاقبه بقسوة كي يبرهن على أنه ليس متحيزًا.

أما عندما يوجه أحد المعلمين سؤالًا صعبًا للصف، فإنه يختص صاحبنا به دون سواه:
«كيف لا تعرف الإجابة؟ أنت ابن الأستاذ (فلان) ولابد أنك تعرف»

فلا تمر ساعة حتى يكون أبوه قد عرف الخبر.. ابنك لا يعرف إعراب (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل).. هكذا يكون عقابه في البيت مرعبًا لأنه جلب العار على أبيه.

عندما كبر صاحبنا صار كاتبًا متوسط الشهرة والنجاح. تعرف إلى ناقد أدبي شهير وصارت بينهما صداقة حميمة.. كان الأدباء الآخرون يرون الاثنين معًا طوال الوقت فيصيحون في خبث:
«يا لك من محظوظ! يمكنك أن تنشر قائمة المشتروات الخاصة ببيتك أو فاتورة الكهرباء، ولسوف يشيد بها هذا الناقد في كل المحافل الأدبية»

كتب روايته الأولى التي شعر بأنها جيدة ونشرها.

عندما فتح مجلة مخصصة للنقد الأدبي، وجد مقالًا عن الرواية كتبه صديقه الناقد يبدأ بالكلمات التالية:
«برغم صداقتي القوية مع الأديب الشاب (فلان) فإن هذا يجب ألا يمنع المرء من أن يكون صريحًا وأن يراعي ضميره الأدبي»

ثم انهال بالشتائم على الرواية وكاتبها الذي هو: إما مجنون أو هو لم يحصل على الشهادة الابتدائية بعد. الحبكة مفككة واللغة ركيكة والشخصيات سطحية.. الرواية مملة وسخيفة وخالية من الأصالة.. إلخ.

لم يعتقد صاحبنا قط أنه تولستوي، لكنه لم يعتقد كذلك أن الرواية بهذا السوء. التفسير الوحيد الممكن هو (عقدة العدالة) إياها.. يريد الناقد أن يثبت أن صداقتهما لم تمنعه من أن يكون عادلًا وربما قاسيًا كذلك.. لو لم يكونا صديقين لحاكم الرواية بتساهل أكثر ولراقت له كذلك.

فيما بعد عرف صاحبنا لفظة روسية اسمها (بريجيب).. هذه اللفظة تعني (محاولة تقويم العصا المثنية بحيث تنثني إلى الناحية الأخرى).. الناس تتوقع أن يلقى ابن المعلم تدليلًا خاصًا، وتتوقع أن يثني صديقك الناقد على كتاباتك مهما كانت سيئة.. لإثبات العكس يُعاقب ابن المعلم بقسوة دون زملائه، ويهاجم الناقد هذه الرواية بكلمات لم يكتبها في حياته.. نحن عادلون.. نحن عادلون لهذا سنظلمك ظلمًا فادحًا!

يقول المثل المصري: «لحمتك مشغّتة ليه؟ عشان الجزار صاحبي»! أي أن الجزار صديقي لهذا انتقى لي بالذات أسوأ قطعة لحم ممكنة.. والمعنى الشائع له أننا لا نخدع إلا معارفنا القريبين، لكني أضيف له هذا المعنى.. البريجيب!