لم أصدق الرقم إلا عندما عدت لملفات الكمبيوتر, واكتشفت أننا فتحنا صندوق د. محفوظ لنخرج أول قصاصة ورق في نوفمبر عام 2004, ومنذ ذلك الحين نخرج قصاصة كل شهر لنطالع ما بها, وها هي ذي القصاصات قد انتهت.. يخيل لي أنني بدأت الكتابة هنا مند عامين لا أكثر, لكن هذا ديدن الأعوام الأخيرة.. تزداد قصرا كأنها ليست أعواما ولكن أعمدة هاتف نراها تركض متدافعة من نافذة قطار.
يبدو أن الوقت قد حان لنغلق الصندوق., حان الوقت كي يصمت د. محفوظ الثرثار قليلا, وأتكلم أنا, طبعا ينتظر القارئ مني أن أتكلم عن بعض الظواهر الغامضة, مثل قلعة اللورد فلان في اسكتلندا حيث يمشي شبح الكونتيسة بعد منتصف الليل ليلتهم أذن من يكون هناك, أو الرسوم الغامضة التي وجدها العالم (فلان) علي قمة جبل في التبت, وتؤكد أن الهامبورجر كان معروفا منذ مليون سنة لدي حضارة أخرى.. الخ.. يسمون هذا الكلام الفارغ الظواهر الفورتيه
Fortean
وهناك أطنان منه على كل حال, ومن الغريب أنني لا أرتاح له كثيرا.. أقبل أن يكون هذا الكلام في سياق قصة حيث الخيال هو اسم اللعبة, لكني أرفض رفضا تاما أن يكون على شكل معلومات, بعبارة أخرى يسرني أن أكتب قصة مسلية عن مصاصي الدماء, لكني أرفض أن أكتب مقالا عن مصاصي الدماء وطريقة قتلهم وكيف تميزهم عن سواهم.
Fortean
وهناك أطنان منه على كل حال, ومن الغريب أنني لا أرتاح له كثيرا.. أقبل أن يكون هذا الكلام في سياق قصة حيث الخيال هو اسم اللعبة, لكني أرفض رفضا تاما أن يكون على شكل معلومات, بعبارة أخرى يسرني أن أكتب قصة مسلية عن مصاصي الدماء, لكني أرفض أن أكتب مقالا عن مصاصي الدماء وطريقة قتلهم وكيف تميزهم عن سواهم.
دعنا من الكونتيسة التي تلتهم الآذان إذن, ولنتكلم في شيء آخر اليوم علي الأقل.. فقط تعال وأعد لنا كوبا من الشاي الثقيل ليحلو الكلام.. ألا يوجد عندكم أي نوع من البسكويت أو الكيك هنا؟.. لا؟.. يا للبخل..
اليوم سوف أعود بك إلي أوائل السبعينيات من القرن الماضي.. علي الأرجح كنت أنت في علم الغيب وقتها, أما أنا فكنت طفلا في المدرسة الابتدائية نهما للمعرفة بطريقة غير عادية.. نباتا ينمو متأهبا لأن يمتص كل قطرة يقابلها حتي لو كانت قطرة عرق. في هذه الفترة تشكل وعيي للأبد, وقرأت أول ماقرأت من مجلات بعينين متسعتين.. طبعا لم أكن أستوعب معظم ما أطالعه لكنني لا أنساه أبدا.
كانت تلك الفترة أعواما صاخبة بحق.. الشباب ثائر في العالم كله لأنه يشعر أن الكبار أوغاد منافقون متحجرون.. حرب فيتنام مشتعلة وقد بدأت تكلف أمريكا أرواحا ومالا أكثر من اللازم, وبدأ الناس في أمريكا يتساءلون: لماذا يقوم البيض الذين سرقوا أرض الحمر بإرسال السود ليقتلوا الصفر في الجانب الآخر من العالم؟.. الشباب الأمريكي يهجر بيته ليلبس القمصان المشجرة ويمشي حافيا ويتعاطي عقار الهلوسة ويعيش في الشوارع.. البيتلز عادوا من التبت وقد اعتنقوا البوذية.. كل شيء مشجر وزاهي الألوان أو ما يطلقون عليه (سايكدليك), وفي هذا الوقت بالذات ـ عام 1969 ـ أقام الهيبيز مهرجانهم الأضخم والأشهر (وود ستوك) في واشنطن.. لابد أنك سمعت أغنية (حرية) التي كانت زهرة المهرجان..
أعتقد أن هذه الفترة أثرت بشدة في كاتبنا النشيط (محمود قاسم), وله رواية جميلة اسمها (شارلستون) عن تلك الحقبة تصفها بأمانة ودقة.
في هذه الفترة بالذات عرفت الساحة الثقافية نوعا فريدا من المخلوقات: هم الكتاب والصحفيون والرسامون الذين يسافرون للخارج عشر مرات في العام, علي حساب الجريدة التي يعملون فيها طبعا.
كان من السهل أن تعرف هؤلاء المثقفين من شكلهم, بالشارب طراز جنكيز خان المتدلي علي جانبي الفم, والشعر الذي يتدلي علي الكتفين, والسجائر الأجنبية, والمعطف الذي يحرص المثقف علي أن يلتقط به بعض الصور لنفسه في ميدان ترافلجار أو سان ماركو أو أي ميدان يغطيه الحمام..
بعد هذا يكتب فلا يحاول استيعاب قيم العمل والنظام والعلم في الحضارة الغربية.. فقط هناك دائما تلك القصة الحمضانة عن الكاميرا التي نسيها في الأتوبيس, وعاد ليجدها حيث هي بعد عشرة أيام.. أو عن قشر اللب الذي ألقاه في الشارع ـ هل هناك لب في باريس؟ ثم نظر خلفه فوجد رجل الشرطة يمشي خلفه من أول الشارع وقد جمعه كله في قبضته,ثم قال له: دونت دو ذات.. هل رجال شرطة باريس يتفاهمون بالإنجليزية؟
الآن جاء دور المظاهر السطحية للحضارة الأوروبية.. المظاهر التي تبهره جدا ويوشك أن يبكي تأثرا وهو يحكيها لنا مع نغمة (أنا شفت وانتو لأه).. الحرية الجنسية ومحلات البورنو وأنواع النبيذ والفكر الوجودي والملاهي الليلية, وما يحدث في الشوارع بينما المارة لا يتدخلون.. إلخ.. طبعا هذا الأخ لا يرى من الفكر الوجودي سوى فتاة تلبس شبشبا تنفث سحابة كثيفة من الدخان وهي تنظر للسماء, وأمامها كأس مترعة, ومستعدة أن تذهب مع أي واحد إلي أي مكان في أي لحظة.. لماذا؟.. لأنها وجودية طبعا ياأخي..
تقريبا كان هذا ما يكتبه كل واحد منهم, ثم يكتب في انبهار عن فيلم إباحي جديد تراه لندن وباريس ليقول لنا إنه يناقش (أزمة العصر والإنسان). دائما أزمة العصر والإنسان حتي أصبت بحساسية من هذه العبارة, وأرشحها لتكون من أنواع الأرتيكاريا المعروفة. لابد من الكلام عن حرب فيتنام كذلك ليبدو الأمر عميقا. رأيت فيلما لبنانيا تم تصويره في تلك الفترة, فلم أجد مشهدا واحدا أقبل أن يراني أحد وأنا أشاهده, لكن في منتصف الفيلم يظهر رجل عجوز يحمل كأسا, ويقتاد البطلة إلي جدار علق عليه بعض صور حرب فيتنام ليقول لها في عمق:
ـ حرب فيتنام.. ياسلام!!
بهذه العبارة البلهاء صار الفيلم عميقا وصار يناقش (أزمة العصر والإنسان).
في ذلك العصر اشتهر (كلود ليلوش) جدا بفيلمه الأول (رجل وامرأة), وهو فيلم لا بأس به وفيه مجموعة طريفة من التقنيات الجديدة, أضف لهذا اللحن الجبار الذي يعرفه الجميع, والذي لو استعملته لحنا تصويريا لزجاجة زيت تموين لصارت قطعة من الفن الرفيع. بعد هذا قدم ليلوش حشدا من الأفلام,حول فيها (رجل وامرأة ) إلي جورب يقلبه بألف طريقة ممكنة ويحاول بيعه من جديد. في فيلم متأخر اسمه (رجل آخر.. امرأة أخرى) يقول في بدايته: إن كل القصص قصة واحدة في النهاية! علق الناقد الجميل (سامي السلاموني) علي هذه العبارة قائلا: ليلوش يخبرنا منذ البداية أنه ـ عدم المؤاخذة ـ لا ينوي أن يقول شيئا!. هكذا تبين لنا في وقت متأخر أن ليلوش بائع ترام يجيد الفرنسية لا أكثر, ثمة عبقري آخر هو جان لوك جودار الذي يستحيل فهم لقطة من أفلامه, وكان محبوبا جدا وقتها.
أفلام كثيرة جدا عبارة عن كلام فارغ اشتهرت في تلك الفترة, ولمعتها أقلام هؤلاء النقاد طويلي الشعر, منها الفيلم السخيف المتحذلق (التانجو الأخير في باريس). كان علي بطلة الفيلم (ماريا شنايدر) أن تنتظر ثلاثين عاما لتقول: المخرج برتولوشي مريض نفسيا ومنحرف.. لم يكن يريد سوى استغلالي جنسيا بكل طريقة ممكنة. نفس الكلام ينطبق علي السخف المسمي (سدوم) و(نقطة زبريسكي)ـ
طبعا كانت هذه الأفلام من المقدسات في ذلك الوقت لأنها تعبر عن أزمة العصر والإنسان. لم يكن بوسعنا السفر لرؤيتها في الخارج, واليوم أرى هذه الأفلام عن طريق الكمبيوتر فيصيبني الذهول.. هل كان هناك وقتها من يحب هذا الهراء حقا؟؟
كان هناك فيلم شهير لأندي وارهول ـ عبقري مجنون آخر ـ يصور ناطحة السحاب (إمباير ستيت) في لقطة ثابتة لمدة ست ساعات! ولما تساءلت عن مبرر هذا الجنون, قالوا لي إن المخرج يرمز بهذا إلي (أزمة العصر والإنسان).
فيما بعد عرفت أن بعض هؤلاء السادة المثقفين كانوا يقومون بجولات مطولة في حانات باريس ولندن ويكتسبون خبرة ممتازة في التمييز بين نبيذ (شيانتي) والنبيذ البورجوني, والجولات في شارع (سان دنيس) في باريس.. ثم يجلسون بسرعة ليكتبوا أي شيء.
أحيانا يضيعون وقتهم في نشاطات أخرى: هناك ناقدة سينمائية شهيرة كانت تكتب عن مهرجان كان كل سنة, ثم عرفت من زميل لها أنها كانت تقضي فترة المهرجان كلها في التسوق من شارع الشانزليزيه, ثم تهرع إلي كان قبل انتهاء المهرجان لتجمع النشرات الخاصة بالأفلام المعروضة من ستاندات الشركات, تكتب منها في مصر تقريرها الذي سينشر في المجلة.. وكالعادة تشرح لنا كيف أن هذه الأفلام تناقش(أزمة العصر والإنسان)
تذكرت دعابة الأب المصري الذي أرسل ولده إلي فرنسا لدراسة الطب, ثم ذهب ليزوره بعد أعوام. راح الفتي الفخور يشرح لأبيه كل ركن في باريس.. هذا هو بار كذا.. هذا هو مرقص كذا.. هذا هو ملهي كذا.. في النهاية توقفا أمام بناية فاخرة عتيقة الشكل فسأل الأب ابنه عن اسمها. لم يعرف الفتي. اتجها إلي شخص ما يسألانه عن هذه البناية فأخبرهما أنها كلية طب باريس!
الرسامون كذلك كانوا يذهبون هناك ليمرحوا, ثم يجلسوا في مكاتبهم ليرسموا اسكتشات سريعة لعشاق جالسين في حدائق عامة وقد أحاط بهم الحمام, أو فتيات يجلسن بالميكروجيب حول موائد دائرية في مقاه مفتوحة, أو متسول يقلد شارلي شابلن. كان بوسعهم أن يرسموا هذا كله وهم في مكاتبهم في مصر بالطبع. لي صديق من الرسامين سيئي الحظ الذين لا يمكن أن ترسلهم المجلات التي يعملون فيها إلي أي مكان, ملأ لي وهو في بيته المتداعي بحي الحسين كراس رسم كاملا مليئا باسكتشات رائعة من ميادين روما وستوكهولم ومقاهي باريس.. وكان يتوقف أحيانا ليأخذ رشفة من الشاي أو يسحب نفسا من دخان المعسل.. وأحيانا كان يقضم قضمة من ساندوتش طعمية.. لهذا امتلأت الاسكتشات ببقع الزيت.. طلب مني لو سألني أحد عن مصدر هذه البقع أن أقول إنها بقع مايونيز أسقطتها الساقية ماريان علي اللوحات..
ثم حك رأسه مفكرا وقال:
ـ هناك فكرة أفضل.. قل إنها بقع وضعناها عمدا علي الرسوم لتعبر عن أزمة العصر والإنسان!
نعم.. برغم أن الحياة تسوء وتزداد تعقيدا فإن من حسن حظنا أن موضة (أزمة العصر والإنسان) هذه قد انتهت. صحيح أن النصب مازال ممكنا عن طريق الإنترنت حيث يمكنك كتابة مقال عن أي شيء خلال ثلاث دقائق, فإن أحدا لم يعد يجرؤ علي استخدام مصطلح (أزمة العصر والانسان) هذا بعد ما اعتصره الأقدمون كليمونة. دعك من أن كتاب ذلك الجيل قد شاخوا وأصيبوا بالنقرس والروماتيزم وارتفاع ضغط الدم وضيق الشرايين التاجية,, فلم يعد بوسعهم الكلام عن أي أزمة سوي الأزمة القلبية فلتعد لنا كوبا ثانيا من الشاي الثقيل قبل أن نفتح موضوعا آخر.