قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, September 23, 2012

رسائل المحبة - 4


آه لو كنت معي في تلك اللحظات
ثمّة مواقف في الحياة يغدو من السخف أن تحاول وضعها في كلمات، وإلا لكان من السهل أن تصف شعورك عندما همستْ هي بأنها تحبك، أو عندما رأيت أنا أبي يغمض عينيه لآخر مرة ويأبى أن يرد عليّ.. كل هذه أمور عاصية على الوصف، معجزة لقدرة اللغة على التعبير

الأسهل أن ترى معي هذا المشهد الرهيب
كان الخطاب يحترق في يد الدكتور فكرون، وعندها بدأ اللهب يتصاعد.. ثم الدخان

احترقت الورقة ورأيت هذا الوهج الغريب ـ (رسوم: فواز) ـ

أنت لا تحلم ولا تهذي.. أنت ترى ما نراه جميعا.. هذا وجه شيطاني له قرنان يضحك في سخرية، وقد صنعه اللهب والدخان كأنه رسم بألعاب نارية في كرنفال.. يرتفع إلى نحو ثلاثة أمتار فوق الرءوس
صرخات.. في الظلام بدا المشهد رهيبا فعلا

قال د. فكرون وهو ما زال يمسك طرف الورقة برباطة جأش:ـ
ـ كما تلاحظون.. لا يوجد تفسير لهذه الظاهرة الشيطانية سوى أن هذا وجه الشيطان.. إنه توقيعه.. وهكذا يمكن أن نعرف من أرسل الخطابات

صاح أحد الجالسين:ـ
ـ أنت تعبث بنا.. رأيت حيلة مماثلة في أحد ملاهي كوبنهاجن
قال د. فكرون دون أن يرفع عينه نحوه:ـ
ـ هذا جميل.. أرجو أن تعتلي المنصة وترينا كيف تفعل ذلك وإلا فلتصمت

كان الدخان يخبو والنار تفنى.. وبدأ الظلام يزحف من جديد على القاعة، وهنا أدركنا حقيقة مرعبة أخرى: رائحة الكبريت تخنقنا.. لم يُحضر أحد الكبريت إلى هنا وليس هناك مختبر قريب
إنها رائحة الشيطان ذاته
ـ أرجو أن تعيدوا الإضاءة.. كح كح

عندما عاد النور إلى القاعة كنا نشعر شعورا غريبا
هذه هي تقريبا اللحظة التي أدرك فيها الجميع أن هناك دائرة حمراء على جبيني
دائرة حمراء متقنة الرسم فاقع لونها
وكنت أسأل فكرون:ـ
ـ من أوحى لك بأن تحرق الخطاب؟

قال باسما:ـ
ـ ككل اختراع في التاريخ، لعبت الصدفة دورا.. كنت أدخن السيجار وأنا أفحص الخطاب.. هنا سقط الرماد المشتعل على الورقة واحترقت.. رأيت هذا الوهج الغريب.. كان لديّ خطابان آخران.. أحرقت الأول للتأكد وهذا هو الثاني
ـ لماذا ينظر إليّ في فضول؟ لماذا؟

قال وهو يضع الرماد الباقي في إناء برونزي صغير:ـ
ـ الآن تعرفون أنني على حق.. هذه هي أول خطوة بالنسبة إليك يا زميل، أرى أن الشيطان قد ألقى عليك بعلامة الموصومين، لذا أطلب منك أن تغادر القاعة لسلامة الجميع

من؟
كان عليّ أن أضيّع خمس دقائق من البلاهة والغباء وعدم الفهم، قبل أن أعرف ما حدث لوجهي فعلا

*****************************

أوقات صعبة مرت برجال المختبر الجنائي وهم يفحصون ما وجدوه من خطابات المحبة
بالطبع لم يخطر لأي منهم أن يشعل النار في خطاب، فلا أحد يحرق الأدلة.. ولو فعلوا لأصابهم العجب

الرائد حمدي كان موشكا على الجنون.. بالنسبة إليه هو يتوقع أن يمسك رجال المختبر الجنائي بخطاب ثم يصيحون: الفاعل هو فلان المقيم في شارع فلان.. نوعية الورق تدل على أنه تم شراؤه من مصنع فلان، وهذا يقع جوار بيت فلان

كان الرائد حمدي موشكا على الجنون ـ (رسوم: فواز) ـ

ما نفعهم إذن؟ وماذا يصنعون بكل أجهزة المجهر هذه؟ لا شيء.. كان رأيه طيلة حياته أن العلم لا نفع له ولا جدوى.. مجرد إضاعة وقت

أشعل لفافة تبغ جديدة وراح يراقب ما يقومون به، مذبحة النادي كانت عملية مخيفة وقد تحدثت عنها الصحافة.. سوف تطير رءوس كثيرة لو لم يتم القبض على الفاعل أو تفسير ما حدث

لكنه ليس قلقا على رأسه.. ما يشعر به هو نوع من الاستفزاز الصبياني لدى الشعور بالتحدي.. عندما كان يرى صبيين يلعبان لعبة صعبة كان يصر على أن يجرب نفسه فيها.. لا يهتم بأن يكسب مالا أو يتجنب عقابا.. لا يريد سوى التحدي فقط

قال د. نعمان وهو يصب لنفسه بعض القهوة:ـ
ـ لا ننكر أن هناك مادة كيميائية تشبّع بها الورق
اتسعت عينا حمدي.. ما معنى هذا؟

قال د. نعمان:ـ
ـ مادة كيميائية.. أعتقد أنها تسبب نوعا من التخدير، وربما تضعف الإرادة
ـ ما اسمها؟
ـ تركيبها قريب جدا من مادة الهيوسين.. تستعملها أجهزة المخابرات في الخارج أحيانا.. لكننا بحاجة إلى تحليل أدق باستخدام جهاز
HPLC

من جديد توتر الرائد الشاب وأشعل لفافة أخرى:ـ
ـ هل تعني أن من أرسل الخطابات شبّع الورق بمادة ترغم المتلقي على التنفيذ؟
ـ هذا احتمال وارد جدا
مخابرات.. سموم خفية.. الأمر يتضخم.. شعر بشعر رأسه ينتصب.. القصة كبيرة إذن
ـ متى نعرف الحقيقة؟
ـ لا أدري.. سوف نحاول طلب خبرات قسم الكيمياء بكلية العلوم، فإن لم نستطع فلربما أرسلنا العينة للخارج
ـ للخارج؟ سوف يستغرق هذا دهرا كاملا.. سوف تموت شعوب وتولد شعوب وتنهار جبال وتحترق مجرات كاملة إلى أن يحدث هذا
ـ إذن ابدأ الآن وحالا

عقار يضعف إرادة الناس.. هذا يجعل الأمور مفهومة
لكن ماذا عن المكان وأوامر القتل؟ الخطاب يُعدّك للموت فقط، لكن لا يخبرك بالطريقة، فكيف عرفوا مكان اللقاء؟ هل هناك خطاب آخر أو مكالمة هاتفية؟
لو ظل أحد هؤلاء الحمقى حيا لانتهت المشكلة

غادر الرائد المختبر، فاتجه إلى سيارة الشرطة
كان المجنّد السائق واقفا مستندا إلى السيارة يدخّن، فلما رآه أجفل، ألقى بلفافة التبغ ثم هرع يدخل العربة ويدير المحرك.. لم يعلّق حمدي.. كان مرهقا بالفعل، برغم أنه مولع بإهانة الآخرين وتعنيفهم، وخير وقت لذلك هو عندما يشعر أن الأمور غير مفهومة

جلس حمدي في مقعده وأشعل لفافة تبغ
هنا رأى ذلك المظروف الأنيق على التابلوه
نظر إلى المجند في حيرة:ـ
ـ من جاء بهذا؟
بدا الغباء على الرجل.. لا يعرف ولم ير من جلبه

مدّ حمدي يده وفتح المظروف في ضيق وقلبه يدق عاليا.. وقرأ المكتوب:ـ
ـ"الخميس 27 إبريل
استعد للموت في الرابعة عصرا
مع فائق الاحترام"ـ

هكذا إذن؟ لقد ظفروا بي
لكن من هم؟

.......

يُتبع