قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, January 28, 2013

المحرقة



هذه أيام سوداء بحق. لم تقترب مصر فى تاريخها الحديث من الاندثار مثلما يحدث هذه الأيام، بين سلطة لا مبالية لا تتمتع بأى كفاءة وتقضى وقتها فى كتابة التويتات، وبين أشخاص اتخذوا العنف هوية وهواية وعنوانًا، وحولوا مصر إلى بلد يستحيل أن يحكمه أى واحد حتى موسولينى نفسه

قال لى سائق سيارة الأجرة إن هناك صبية فى عمر الخامسة عشرة يحرقون الأشجار فى شارع البحر، وأن هناك اشتباكات بالقذائف الحارقة حول محكمة طنطا التى شب فيها الحريق. تساءلت فى سري: ما علاقة الأشجار والمحكمة بالغضب على الحكومة ؟

المشكلة الحقيقية فى مصر اليوم هى أن العنف قد خرج من القمقم.. المعجون الشيطانى قد غادر الأنبوب ولم يعد من الممكن أن تعيده على رأى جورباتشيف أيام البريسترويكا. كل الأطراف تلجأ للعنف وتتجاهل القانون وتشعر أن الحرق والهدم أكثر فعالية. عندما تتكلم عن المواجهات كن أمينًا ولا تصورها لى مجردة، كصراع بين فتية مثقفين (كانوا بيلمعوا النضارة) وبين ملتحين شديدى الفظاظة حمر العيون يلوحون بالسيوف. ربما يروق لك أن تعتبر الأمر هكذا لكنها ليست الحقيقة حتمًا. كل الأطراف مخطئة وآثمة، ولن يكون هناك منتصرون أبدًا. مبارك عندما تكلم عن الفوضى من بعده كان يجمع بين التهديد والتنبؤ، ولا شك أن كثيرين - منهم سائق سيارة الأجرة تلك - يعتقدون اليوم أن عهده كان أفضل

عندما نتكلم عن المظاهرات فهى حق أصيل انتزعه الناس ولا أحد يجادل فى شرعيتها وصحتها، لكن ما يحدث هذه الأيام ليس بالمظاهرات بل هو مذابح شعبية.. دعك من نادى هواة الصيد فى الماء العكر، الذين يشعلون الحريق ثم يبكون بحرارة على الشباب الذين سقطوا فى النيران ويتهمون المطافئ بالتقصير. مهمة كل مصرى أن يجعل الحياة عسيرة على المصريين

أنت تعرف أن الدعوة للعنف كانت قوية منذ شهرين، وكانت النذر تلوح فى الأفق، وليس منا من لم يتلق ذلك الإعلان على البريد الإلكترونى، والذى يدعو للخروج بعد صلاة الجمعة يوم 25 يناير لاحتلال كل المؤسسات الحيوية وطرد الرئيس غير الشرعى، ثم يعد بالجحيم لكم ولعوائلكم.. الصورة فى خلفية الإعلان تظهر مصر وقد تحولت لنيران ودم. فى الوقت ذاته يظهر شباب يقولون إنهم من بورسعيد على النت، ويتوعدون بأن تغرق الدماء مصر لو لم تتم تبرئة المتهمين فى مذبحة بورسعيد. ثم يظهر شباب الألتراس أهلاوى فى مسيرات استعراض قوة وسط البلد، ويحاصرون البورصة ويحتلون محطات مترو أنفاق، ويغلقون كوبرى 6 أكتوبر.. بينما تبدو الدولة عاجزة ورخوة جدًا... دولة مائعة رقيعة تتلقى الضربات الموجعة المهينة فتظل صامتة

فيما بعد صدرت أحكام قضية بور سعيد فقال البعض: ربما كان علينا أن نفعل من أجل شهداء الثورة ما فعله الألتراس. هذا كلام خطير يدل على نقص احترام للقضاء وللعدل.. المفهوم الذى ساد فى العامين الأخيرين هو أن عليك أن تضغط على القضاء.. حاصر المحاكم وهدد بالعنف لتحصل على الحكم الذى تريده، فإذا جاء الحكم على غير هواك فلتعلن العصيان وتحرق كل شيء.. أنت تعرف أن جماهير المصرى رفضت الحكم وأشعلت النار فى المدينة كلها.. هم لم يشتروا هذا الطبع بل هو طبع كل المصريين اليوم، ومنذ صار قطع الطرق هواية، ومنذ صار مرشحو الرئاسة الخاسرون يقودون المظاهرات الغاضبة لإلغاء نتيجة الانتخابات

الكل يهدد.. الكل يقدس العنف.. الكل يحمل المولوتوف. قرأت أكثر من مرة من يقول إن سبب ضياع مصر هو شعار (سلمية سلمية). الأخ العبقرى يطالب بـ (دموية دموية) ويحسب أن الأمور ستستقر بهذا الشكل. مع الدعابة السمجة الدائمة (سلمية دى تبقى خالتك)ـ

إنه العنف منذ تم شطب حازم أبى اسماعيل من انتخابات الرئاسة عندما راح الكل يقسم أن البلد ستشتعل، وحتى الأخ أحمد دومة الذى قال بوضوح فى مداخلة هاتفية ببرنامج «آخر النهار» الذى يُذاع على قناة النهار إن حرق مقار جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة «عمل ثورى ضد المستبدين من الحزب الحاكم». وأشار إلى أن حرق مقار جماعة الإخوان أو الحزب الحاكم «يشبه كثيرا حرق مقار الحزب الوطنى المنحل المستبد». من قال إن حرق مقار الحزب الوطنى شيء محبب؟. بعد هذا يقول فى لقاء مع إبراهيم عيسى إن مكتب إخوان أون لاين بدأ بإطلاق الخراطيش والمولوتوف فاضطر الثوار السلميون (حاملو المولوتوف) إلى الرد.. يمكن أن يكون كلامك صادقًا يا عم أحمد، لكن كيف نصدقك وهذه تصريحاتك تبارك الحرق والتدمير؟

ثم - كأن المتاعب تنقصنا - تظهر مجموعات من الشباب الملثم الذى بلغ إعجابه بنفسه درجة كبيرة. تلاميذ مخلصون للسينما الأمريكية التى تظهر شخصية ال
vigilante
فيما يعرف ب (بلاك بلوك).. وهم شباب روش جدا يؤدى استعراضات فى قلب القاهرة.. ولهم ذات المظهر الذى هاجمنا الإخوان بسببه عندما ظهر طلابهم به فى الجامعة أيام مبارك. لقد ولدت الميليشيات إذن وجاءت لتبقى.. من الغريب كذلك أن هذا المظهر كانوا يطلقون عليه فى حرب الجزائر الأهلية لقب (كتائب سلاحف النينجا).. لقد صار العنف من لوازم الروشنة ولوازم الشاب العصرى. ومنذ عام كتبت عن الشاب المستمتع بارتداء القلنسوة والسويتر وحمل الشمروخ.. سلاحف النينجا هى موضة 2013 إذن

جزء كبير من هذا العنف يعود بالطبع إلى غياب العدل.. كما كتبت من قبل، رأينا عشرات حوادث القتل موثقة بالصورة والشهود ولم يعاقب أحد. هكذا غابت الثقة بالعدالة. كانت هذه مسئولية القضاء والنائب العام، ولكن كراهية الليبراليين السرمدية لمرسى تدخلت فصار النائب العام السابق شهيدًا والقضاء فوق أى مساءلة، برغم أنهم كانوا يهتفون ضده منذ أشهر

أشياء غريبة تحدث.. ميدان التحرير فارغ تقريبًا وكل الثوار عند وزارة الداخلية يحاولون حرقها كالعادة.. ألستم ثائرين على الاخوان أو الدستور؟.. ماذا تفعلونه عند الداخلية؟. ما علاقة الثورة بالنهب والسلب فى السويس؟.. فى كل مرة الكلام عن بلطجية مندسين، فلماذا تسمحون لهم بالاندساس؟

كل هذا العنف لابد أن تسيل معه دماء.. ودماء كثيرة.. وقد أحسن الإسلاميون بالابتعاد عن المشهد يوم الجمعة 25 يناير وإلا لفاض النيل بالدم. بعد هذا سوف تأتى نتائج الانتخابات فيتقدم الإسلاميون لأن القوى الأخرى مشغولة بمعارك عديدة، من ثم تشتعل البلاد لأن القوى الليبرالية وجبهة الإنقاذ ستتهم الإخوان بالتزوير واستعمال الزيت والدقيق كالعادة

آخر شيء ينبغى قوله هو أن الحكومة برهنت عن عجزها التام عن لم شتات البلد أو الحزم. الدولة عاجزة ورخوة جدًا تتلقى الضربات الموجعة المهينة فتظل صامتة. البلد عبارة عن جهاز تم تفكيك صواميله ثم لم يستطع أحد إعادتها لما كانت عليه. صار واضحًا تمامًا أن مرسى عاجز عن السيطرة على هذا البلد الذى أفلت من بين أنامله. ولو حاول أن يتصرف بحزم فات أوانه لمات ألف أو ثلاثة آلاف واحد وهذا يعنى تدخل الجيش فورًا. أعتقد أنه لم يعد من مناص سوى عمل انتخابات مبكرة لرئاسة الجمهورية.. انتخابات سلمية نزيهة متحضرة يقبل الكل نتيجتها. البلد لا يتحمل الانتظار أكثر، خاصة والأمر واضح: ليست لدى مرسى أوراق سحرية فى كميه كما كنت أظن سابقًا.. إنه يجيد كتابة التويتات فقط