ينير البرق السماء للحظات، ثم يرتسم ذلك الشرخ في الأفق ويتجه نحو الأرض.. وبعدها يدوي الهزيم الغاضب الحانق
ينهمر المطر مدرارا.. بينما يعلن البحر أنه قد سئم محبسه ويحاول أن يتمرد عليه ويغادره. الموج يمتد للشط محاولا أن ينشب مخالبه فيه، فلو نجح لزحف البحر خارجا وارتمى على الصخور يلهث
يرتسم ذلك الشرخ في الأفق ويتجه نحو الأرض ـ (رسوم: فواز) ـ |
ـ "مول أوف كنتاير".. هناك أغنية شهيرة لفريق البيتلز تحمل اسم هذا المكان
وفي الطابق الثاني من بيت جيروم، كانت أماندا تراقب في هلع تفاصيل التجربة المخيفة التي جاءت من أعمق أعماق كتب السحر القديمة
كانت التجربة قد بدأت تكتمل فعلا، عندما جاءت كالبلهاء تبحث عن الحب.. جاءت في لحظة غير مناسبة على الإطلاق، وهكذا رأت بالصدفة الجانب الآخر من جيروم
كانت تجد في عينيه الواسعتين براءة غير معتادة، وكانت تحب دهشته من العالم التي يبديها في كل حين.. شد ما نجد أنفسنا بلهاء بعد فترة عندما ندرك أننا كنا مخدوعين
الأسوأ أنها لا تعرف مصيرها.. مقيّدة اليدين وحدها مع سفّاح قطع رأس أخته ويمارس طقوس السحر الأسود بعد منتصف الليل، من قال إنها لا تعرف مصيرها؟! بالعكس هي تعرفه جدا
قالت له وهي تشهق وسط الدموع:ـ
ـ سوف تقتلني طبعا عندما تنتهي؟
قال وهو منهمك في طلاء الجمجمة السابعة بذلك الطلاء السري العتيق:ـ
ـ صه.. لا تقاطعيني
كان قد ترك فمها حرا كما قلنا.. الصراخ ممنوع، ليس السبب هو منع الجيران من سماعها، فلا يوجد جيران والعاصفة تمنع أي واحد من سماع أي شيء، فقط هو يريد ألا تفسد صرخاتها الهستيرية جو التجربة
في النهاية تربع على الأرض وواصل تلاوة كلمات غريبة.. غالبا هي كلتية الطابع
ثم أنه مد يده ليشعل الشموع التي كانت قد انطفأت، في كل جمجمة هناك شمعة قصيرة مضاءة في محجر كل عين.. لم تفهم سامانتا معنى هذا الإجراء إلا عندما بدأ الصوت ينبعث من أول جمجمة.. هذه الجماجم تعمل عندما تشتعل الشموع، كل جمجمة تعتمد على شمعتيها، لا بد أن الشموع كانت مضاءة من قبل
رائحة الدخان تتسرب إلى الأنوف مع نوع من رائحة الزنخ، هذه الشموع ليست من الشمع بالضبط.. على الأرجح هي من دهن شيء ما.. لا تجرؤ على التخمين
الآن تسمع الصوت الوقور الغليظ ينبعث من الجمجمة الأولى:ـ
ـ ماذا تريد أيها الغريب؟
نفس السؤال المُلحّ.. لقد كان قادما من هنا
كان هذا هو الصوت الذي سمعته في الطابق السفلي
قال جيروم:ـ
ـ أتاني أنك ستقدم لي العون يا سيد الأدباء
ساد الصمت للحظات، ثم عادت الجمجمة تسأل بلكنة أجنبية:ـ
ـ من يبدأ؟
ـ أنت يا سيد الأدباء
بدأت الجمجمة تتكلم.. راح جيروم كالملهوف يبحث عن شيء ما.. يقلب أوراقه.. ينهض باحثا، ثم في النهاية هرع إلى سامانتا وبمطواة صغيرة حرر معصميها من الشريط اللاصق
تحسست معصميها اللذين تأذيا كثيرا وقالت:ـ
ـ هل لي أن أرحل؟
قال:ـ
ـ بالطبع لا
كانت الجمجمة مستمرة في الكلام بلا توقف، كأنها تعمل بإرادة ميكانيكية.. قال لها جيروم وهو يفتح حقيبتها:ـ
ـ لا أجد جهاز التسجيل وسط هذه الفوضى، لذا سوف تمسكين بقلم وورقة وتكتبين كل حرف يقال
ـ أنت مجنون.. سوف أهرب
لكنها كانت تعرف أنها لن تقدر على ذلك.. كانت أسيرة لقواه الجسدية قبل هذا، أما الآن فقد صارت هناك حبال من الخوف في كل مكان من حولها.. لو ركضت في أي اتجاه فسوف تتعثر.. لا تقدر على أن تتجه إلى الباب وتفر فوق الصخور وسط هذه العاصفة، الأمر أكبر من جيروم.. الأمر يدخل في نطاق آخر مفزع وأقوى من أي تصور
هكذا راح مزيج من الدموع والمخاط يسيل من عينيها وأنفها ويبلل كل شيء، لكنها راحت تحاول أن ترى الورقة التي تكتب عليها
كان الصوت يقول بلكنة شبه أجنبية:ـ
ـ تهب الريح عبر السهوب، بينما الملازم جريجوري راسالييف يشق طريقه على جواده محاولا العثور على أرنب يصطاده وسط هذه الثلوج.. من بعيد هناك كوخ من أكواخ الحطّابين، وهناك كنيسة صغيرة تراكمت أمامها الثلوج، لكن لا بد أن الخوري ساهر حتى هذه اللحظة؛ سوف يقرع الباب قبل أن تتجمد أطرافه وقبل أن تصيبه نوبة صرع تودي به
ما هذا الكلام العجيب؟
هل هذه الجمجمة تحكي قصة؟ ولماذا يتجشم المرء مشقة السحر الأسود وهذا الدم لتأتي جمجمة تحكي قصة؟ إن الرأس المقطوع يخص أخت جيروم، وهذا يعني أن التضحيات لم تكن هينة
توقفت الجمجمة عن الكلام فقال جيروم:ـ
ـ فاتني جزء لا بأس به، لكني سأحاول تخمينه.. تكلم يا سيد الرواية، مستر ديكنز
هل هذه الجمجمة تحكي قصة؟ ـ (رسوم: فواز) ـ |
هنا جاء صوت من الجمجمة التالية.. صوت عميق يتكلم بإنجليزية ممتازة:ـ
ـ هكذا وسط هذه الثلوج وهذا القر، كان يفكر في كل الغلمان البؤساء الذين يتجمدون ويقتلهم الطوى في الأزقة الخلفية في هزيع الليل الأخير دون أن يجدوا كسرة من الخشنكان، وحتى في الميتم لم تك المعاملة أفضل حالا.. تذكر المستر جينسبورو مدير الميتم بسوالفه الكثة، وخديه الأحمرين والقبعة العالية التي لا ينزعها وزهرة البنفسج في سترته، هذا الرجل لم يكن ممن يمنحون الكرم ولا لطف المعشر إلا "نئيشا"ـ
توقفت الكلمة في حلقها فقال جيروم:ـ
ـ "نئيشا" يعني نادرا.. "الخشنكان" هو البسكويت؛ هذا الرجل لا يستعمل إنجليزية سهلة أبدا
ـ قلت إن اسمه...ـ
قال بلهجة من لا يجد أي شيء غريب في الأمر:ـ
ـ تشارلز ديكنز.. من الذي لا يعرفه؟
هل جُنّ الجميع؟ هي متأكدة من أن جيروم مجنون لكن هل جنت هي الأخرى؟ هنا انتقل الكلام إلى الجمجمة الثالثة التي كانت تتكلم بصوت رفيع لأنثى:ـ
ـ اقترب من باب الكنيسة ودق الباب عدة مرات، بينما قلبه يتواثب طربا.. ما سبب هذا السرور الذي أضناه؟ لم يعرف.. حاول أن يتذكر فلم يوفق، فقط انتابته حالة من الانتشاء لا قبل له بها
قال جيروم:ـ
ـ شكرا يا كاترين.. تذكري أننا نتكلم عن ملازم خشن من جيش القيصر.. هذه هي البداية التي اختارها "دستويفسكي"ـ
قالت الجمجمة في ضيق:ـ
ـ لن يظل في جيش القيصر.. أنت ستغير أشياء كثيرة فيما بعد.. والآن هل أكمل؟
ـ أفضل الانتقال إلى "لافكرافت"ـ
هنا بدأت الجمجمة التالية تتكلم بصوت كئيب عميق:ـ
ـ كان يعرف.. يعرف كل شيء عن الآحاد القدامى الذين يتوارون تحت البحر، والذين ينتظرون اللحظة النهائية كي يخرجوا.. كتولو هناك وأزوث هناك.. اليوم بدا للملازم أنه اقترب من الهول أكثر وأن نهاية العالم تقترب، لذا انعقد لسانه على رعب لا فكاك منه
هنا توقفت سامانتا عن الكتابة
نظرت إليه في هلع وقد تجمدت الدموع في عينيها وقالت:ـ
ـ جيروم.. هل الأمر كما فهمته فعلا؟
قال جيروم وهو يرتجف من فرط الانفعال:ـ
ـ نعم.. بالضبط.. إن روايتي العظمى تُكتب الآن!ـ
.......
.......
يُتبع