قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, January 24, 2013

الرواية - اﻷخيرة

بص و طل - 24 يناير 2013

كانت تفكّر
سوف يفتقدونها بعد قليل وتتذكر ماري أن آخر مشاريع سامانتا كان زيارة جيروم في بيته. سوف يأتون وسوف يبحثون عنها.. هذا أكيد، لكن هذا سوف يستغرق وقتا طويلا جدا.. ربما العمر كله.. لن تكون هنا كي تراهم يقتادونه إلى المصحة العقلية.. سوف تكون تحت الأرض

كانت ترتجف.. الألم يعتصر كاحلها
جائعة.. تشعر ببرد شديد.. خائفة.. في أسوأ حالاتها

هناك على بعد خطوات منها تلك المومياوات التي يبدو من مظهرها أنها عتيقة جدا.. على الأرجح هي تنتمي لزمن لم تكن فيه إنجلترا أصلا
لحسن الحظ أن الأمطار توقفت وأن هذه البقعة معزولة عن الماء.. كانت لتجد نفسها في ألعن موقف ممكن، لو كانت غائصة في الوحل

***

رأيت جبالا سوداء وأودية خضراء.. ورأيت نيران الغروب على الصحاري
لكني أعود دوما إلى مول أوف كنتاير

***

كلما أزالت غبارا أكثر تساقطت أجزاء من جثث.. أجزاء عظمية أقرب للتراب، وهذا بلا شك ساعدها على أن تظل متماسكة عصبيا. طلاب الطب يحكون عن زيارتهم الأولى لقاعة التشريح، عندما كانوا يجدون أن الجثث أقرب إلى تماثيل خشبية لها رائحة كيمائية حارقة للعينين لكنها غير مقززة.. هذا يساعدهم على الصمود.. لو كانوا يتعاملون مع جثث طازجة متعفنة لصارت حياتهم جحيما

كانت تشعر أن هذا كله غير حقيقي وأن هذه تماثيل. وبرغم الإضاءة الواهنة فقد قدرت أن هذه ثياب عتيقة فعلا.. صحيح أن القماش بال ذائب تماما لكن ما بقي منه يدلك على عصر قديم كان النسيج فيه يتم يدويا

كانت سامانتا تشعر أن هذه تماثيل ـ (رسوم: فواز) ـ

في مول أوف كنتاير عليك أن تظل صامدا لأنك لا تقدر على الحركة
لكنها في النهاية استطاعت أن تنتزع غصن شجرة يبرز من طبقات الغبار.. شدته نحوها فاكتشفت أنه مهشم.. هكذا مزقت جزءا من ثوبها وثبتت الغصن إلى كاحلها.. جبيرة مرتجلة لكنها فعالة. ثم مدت يدها تبحث عن غصن آخر. تمكنت من أن تنتزعه.. طويل ويصلح كعكاز

هكذا بدأت تحاول أن تتسلق الحفرة.. ربما تنجح.. واهنة جائعة خائفة لكنها ستنجح.. لماذا؟ لأنها واهنة جائعة خائفة.. الأسباب التي تحتم فشلها هي ذات أسباب نجاحها.. ليس لديها ما تفقده

***

عندما نهض جيروم من نومه تناول وجبة خفيفة
عاد إلى الغرفة حيث الجماجم تنتظره وكان يحمل رزمة ورق وقلما.. يعرف أن عليه الانتهاء سريعا من القصة قبل أن يتعفن الرأس المقطوع.. معنى هذا أنه سيكون عليه تقديم تضحية أخرى ليكتب روايته التالية

غرس شموعا جديدة في المحاجر وأشعلها، ثم جلس يراقب اللهب حتى استقر.. هنا سمع صوت جمجمة فيكتور هوجو تقول:ـ
ـ هبت الريح من جديد، بينما الماركيز الشاب يتحسس مقبض سيفه.. كان يعرف أن هناك حشدا من اليعاقبة يحيط بالقصر، وكان يعرف أن معنى اعتقاله هو المقصلة بلا شك. لذا قرر أن يبيع حياته غاليا، لكن ما كان يؤرقه هو مصير حبيبته الرقيقة بياتريس

هنا قال لافكرافت:ـ
ـ ككل سكان نيو إنجلند، كان يحمل ذلك الطابع الكئيب الجهيم كأنه جاء من خلف الظلال. بشرة لم تر النور قط وعقل أفناه في قراءة كتب السحر العتيقة، وكان يصحو من نومه راجفا والعرق يغمره. لكنه لم يحك لي قط قصة تلك الجثث التي وجدها في قبو داره والتي كانت تتحرك وتملأ البيت في ليالي الشتاء

قال دستويفسكي:ـ
ـ ولأنه يهوى القمار وشرب الخمر فقد طردوه من الفرقة.. وبرغم هذا أصر على الذهاب لذلك الحفل الذي يؤمه ضباط القيصر. وهي مخاطرة كبرى لأن هذا قد يعرضه للمحاكمة، لكنه لم يعد يبالي.. ما دام سيلقى هناك أولانوفنا الحسناء وأباها الجنرال، ولكنه لم يذهب للحفل لأن نوبة من الصرع هاجمته قبل الذهاب هناك

قال جيروم في ضيق:ـ
ـ الصرع كالعادة. عندما أقرأ قصصك يا سيد الرواة أشعر كأن الصرع نوع من الزكام. لا أحد ليس مصابا بالصرع
ثم التفت نحو ديكنز طالبا استكمال القصة
كان البيت كله مظلما.. ومن الخارج بدا كأنه شبح يقف هناك مطلا على البحر، لكنك كنت ترى نافذة وحيدة تتوهج بضوء خافت.. ضوء شموع أربع عشرة، تتراقص في أربعة عشر محجرا

***

وهناك بين الشجيرات ارتمت سامانتا ممزقة الثياب تلهث وتبكي. لقد صار وجهها كأنها كانت في مستنقع.. تحتاج إلى عدة أشهر كي تسترد نضارتها القديمة ويعود النمش لوجهها
أما الآن فهي قد غادرت الحفرة وأخيرا يمكنها أن تواصل الهرب

لكن عليها أن تكون حذرة في هذا الظلام.. لها ساق مريضة وتتوكأ على غصن شجرة
نظرت إلى البيت والنافذة وارتجفت
التجربة المخيفة مستمرة كما هو واضح
وفجأة شعرت بالأرض تهتز
ماذا يحدث؟

توارت بين الشجيرات وهي لا تفهم ما يحدث. وللحظات خيل لها أنها تهذي. لقد كانت الأرض تنهار في عدة مواضع.. ومن كل انهيار ترى يدا عظمية تخرج باحثة عن شيء ما، واستطاعت أن ترى الحفرة التي خرجت منها منذ نصف ساعة

كانت هناك أشياء تتحرك.. تتجه للخارج
وفي الظلام الدامس استطاعت أن تميز أشياء عديدة تمشي في ضوء النجوم.. تملأ منطقة الشاطئ.. ماذا يحدث هنا؟ كادت تصرخ ثم قررت أن تعض على الغصن الذي تتوكأ عليه.. لا تريد أن يصدر منها أي صوت

ترى هذه الأشباح تترنح.. تمشي.. تزحف.. كلها تتجه نحو البيت
سمعت خشبا يتهشم.. ثم رأت هذه الأشياء تتسلل إلى الداخل.. عددها يفوق قدرتها على الحصر
مرت لحظات ثقيلة ثم سمعت الصراخ. صراخ جيروم بالذات.. هذا صراخ مريع كأنه شخص يذبح
لقد مات.. لم تعرف ما حدث لكنها لا تملك أدنى شكوك أنه مات

ترى هذه الأشباح تترنح.. تمشي.. تزحف.. كلها تتجه نحو البيت ـ (رسوم: فواز) ـ

ومع الصراخ سمعت صوتا غير بشري.. كأنها مخلوقات جاءت من سقر تضحك متلذذة
وكان هذا كافيا كي تجد السير مسرعة.. تثب وثبا فوق ساقها السليمة. قلبها يوشك على التوقف رعبا
ولا تعرف كيف فقدت الوعي.. لكنها فقدته

***

قالت دكتورة كريستين التي قضت حياتها في دراسة الماورائيات، والتي طلبتها سامانتا في المستشفى:ـ
ـ لقد مزقوه تماما... تحول إلى سمكة متفسخة
سألتها سامانتا وهي تريح ساقها على مقعد في الحديقة:ـ
ـ من هم؟ أنا رأيتهم لكن لا أعرف من هم

أشعلت د. كريستين لفافة تبغ طويلة بنية قوية الرائحة وقالت:ـ
ـ رجال الشرطة وجدوا المخطوطات وطلبوا رأيي.. ما رأيته هو أن جيروم استعمل ضروبا من السحر الذي كانت القبائل الكلتية تمارسه في شمال البلاد قديما.. هذه هي العقيدة الدرويدية
Druidic
وكان هؤلاء القوم يعبدون إلها يعتبرونه سيد الموتى.. اسمه ساوين.. ما فعله جيروم هو أنه أعاد تقليدا من السحر الأسود كان يمارس في الهالوين

قالت سامنتا محتجة:ـ
ـ مالنا والهالوين؟ الهالوين هو آخر يوم في أكتوبر

ـ جيروم خطيبك جعل اليوم يحدث في غير تاريخه.. التعويذة التي استعملها تتيح له استدعاء أرواح الموتى لتسكن تلك الجماجم.. لكن استعمالها ثلاث مرات يعيد الأسطورة القديمة. يقال إن ساوين كان يستدعي أرواح الموتى جميعا في هذا اليوم ليتولي تنسيقها.. كان الكلت يهابون هذه الليلة ويستعدون لها بالنيران في الخلاء والأقنعة وربما بعض الأضحيات البشرية.. يقال أيضا إن أرواح الذين ماتوا في العام الماضي تخرج بحثا عن أجساد حية تسكنها.. في هذه الليلة بالذات تتلاشى الحواجز بين العالمين، ويصير الموتى قادرين على اقتحام البيوت

هتفت سامانتا في رعب:ـ
ـ هل تريدين القول إن....؟

ـ كانت الأسر الكلتية في تلك الأيام تطفئ النيران في ديارها ، لتصير البيوت باردة غير مريحة للأرواح. إذن نحن قادرون على تخيل ما حدث.. جيروم استدعى التعويذة ثم ظل في داره.. كان عليه أن يلجأ للخلاء ويمضي الليل هناك مثلك.. اقتحموا الدار عليه.. لهذا وجدوه.. لهذا مزقوه

ثم أردفت الدكتورة وهي ترشف قهوتها وتخرج شيئا من حقيبتها:ـ
ـ لو صدقنا هذه القصة وهو ما أميل له، فلنا أن نقول إن هذه الرواية غير المكتملة التي كتب نصفها بخطك ونصفها بخط جيروم، والتي بلل دمه صفحاتها الأخيرة.. يمكن القول إنها فرصة لن تتكرر في تاريخ الأدب ثانية، وإنني لأرجو أن تسمحي لي بالاحتفاظ بها. ربما يقرر أحدهم يوما أن يعيد التجربة، لكن عليه وقتها أن يتأكد من أن الأرض التي يمشي فوقها لا تعج بجثث الأجداد ، وأن سحر الدرويديين لا يعمل

تمت