قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, December 24, 2016

دع الزمن يمرّ


في مراهقتي أردت أن أعرف كل شيء عن الماركسية، واقتنيت مجموعة من الكتب.. كتب ابتعتها من على الرصيف متسخة مثنية الأطراف.. أذن كلب كما يقول الإنجليز، وقد وضع (مناضل) ما عشرات الخطوط على هوامشها وأحرق صفحات بطرف لفافة التبغ. ظلت هذه الكتب جوار فراشي عدة أعوام.. وفي كل ليلة أفتح صفحتين، ثم يغلبني النعاس أو أكتشف انني لا أفهم شيئًا..

ظللت في هذه الحالة حتى العام 1989عندما صنعوا الفجوة في جدار برلين، وهو المشهد المحفور في ذهن من عاش في تلك الفترة. شاهده هنا. ثم توالى الانهيار في السد. جورباتشيف.. البريسترويكا.. لقد انتهت الماركسية إلا كمادة دراسية لدى دارسي العلوم السياسية والمؤرخين. أعتقد أنني كنت أكثر الناس سرورًا وقد أدركت انني لست في حاجة لدراسة هذا الكابوس.. وضعت الكتب في حقيبة كبيرة ثم ذهبت لأعطيها لعم أحمد بائع الكتب القديمة، وحصلت بدلاً منها على مجموعة نادرة من مجلات ميكي.

كنت في مراهقتي راغبًا في دراسة الوجودية، وأعتقد أن أهم كتاب وجدته عن الموضوع هو كتاب الوجودية لأنيس منصور، وعلى غلافه فتاة شقراء تجلس في تحد فوق كومة من الكتب وتتصفح كتابًا في نهم. كان كتابًأ ممتعًا وقد منحني قشرة لا بأس بها عن الوجودية، لكن عندما حاولت التعمق وجدت أن الأمر أبعد ما يكون عن لعبة. كان أنيس منصور يحاول تبسيط موضوع شديد التعقيد والتخصص الفلسفي، لكنك عندما تقع في قبضة سارتر وسيمون دي بوفوار وكيركجارد ومارتن بوبر، تكتشف أنك لم تخلق لفهم الوجودية أو الفلسفة عمومًا.


مع الوقت بدأ الشعور بالذنب والغباء يتضاءل، وأنا ارى انقراض الفلسفات وازدهار الأيديولوجيات. بالتأكيد ماتت جانين التي وصفها نزار قباني في قصيدته الجميلة (وجودية) التي يمكنك قراءتها هنا. كان هذا الجو ساحرًا لمثقفي الستينيات والسبعينيات جدًا، خاصة لو تكلمت عن أزمة العصر والإنسان وحرب فيتنام وذهبت لتسكر (طينة) في بارات باريس، ثم تذهب لفندق رخيص مع فتاة تزعم أنها وجودية. انقرض هذا الزمن تمامًا ومع الوقت أدركت أن الأمر لا يحتاج لدراسة الوجودية بتعمق.. لقد انتهت تقريبًا، فلا حاجة لك بأن تشغل نفسك بها إلا لو كنت طالبًا أو باحثًا في قسم الفلسفة. 

يقول المصريون في أمثالهم: اصبر على جار السوّ .. يا يرحل يا تيجي مصيبة تاخده 

هذا ينطبق على الجيران المزعجين، وينطبق على المواضيع المزعجة. حكى أحمد بهاء الدين أن سكرتارية الرئاسة في عهد أنور السادات كات تقدم له نشرة يومية الغرض منها أن تجعله عليمًا بكل ما يحدث في مصر والخارج. لاحظ أحمد بهاء أن السادات يجهل كل شيء عن تفاصيل موضوع مهم يشغل العالم في ذلك الوقت. فلما خرج من عنده ذهب لسكرتيره المخلص فوزي عبد الحافظ. على قدر علمي، فوزي عبد الحافظ هو الشخص الوحيد في التاريخ الذي ألقى بنفسه على رئيسه ليحميه من الرصاص في حادث المنصة، برغم كثرة الهاتفين (بالروح بالدم نفديك يا سادات) وقتها. المهم أن بهاء سأل فوزي عبد الحافظ همسًا: "هل كففتم عن تقديم النشرة اليومية للرئيس؟" . قال السكرتير: "نحن نطبعها وهي أفضل من أي وقت مضى، لكن الرئيس يطلب كل صباح أن نضعها جوار فراشه.. ومع الأيام تتراكم النشرات. عندها يقول لنا: لابد أن ما فيها قد صار قديمًا!. ويطلب منا التخلص منها!".

فهم السادات مبدأ (دع الزمن يحل المشكلة ) الذي أتكلم عنه، وترك جار السوء يرحل.  


التأخر على الأشياء يجعل الحل ربانيًا على الأرجح. كنت طيلة حياتي أمقت موضوع علاقة الإنترفيرون والريبافيرين بالتهاب الكبد بي وسي، وأراه معقدًا متحذلقًا.. وفي كل يوم كانت بروتوكولات جديدة توضع ومؤتمرات تعقد، وهناك رسائل كاملة عن علاج هذين الفيروسين اللعينين من دون إنترفيرون بل بأشياء وهمية مثل الحبة الصفراء ولدغ النحل وعقار أمانتادين.. إلخ .. عامة لم أر أحدًا يشفى وقتها تقريبًا، وكان إعطاء الإنترفيرون للمريض يجعلك تتساءل عن رقم الشاحنة التي دهسته. وبرغم هذا اضطررت اضطرارًا لحفظ أطنان من هذا الكلام.


فجأه ظهر الجيل الجديد الرائع من الأدوية التي نسميها DAA.. أي الأدوية ذات الفعل المباشر والمضادة للفيروسات، وهي عقارات عالية الفعالية ورخيصة الثمن نسبيًا، برغم حملات التشكيك التي قادها دعاة العلاج بالكفتة. ففي النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا شك أن نتائج أبحاث شاقة لمدة عشرة أعوام تختلف عن طريقة (قمة الإعجاز) هذه. المهم والخبر السعيد هو أن الإنترفيرون صار ماضيًا وإن احتجنا له أحيانًا، بالضبط كما حدث مع الزهري في بداية القرن العشرين.. جرب إرليخ عددًا لا حصر له من المستحضرات التي يمزجها بالصبغة، وأخيرًا وجد مركبًا يصلح لقتل هذه البكتريا اللعينة، وبدأ العالم يتكلم عن (دكتور إرليخ والرصاصة السحرية) وتدارس الكثيرون هذه التقنية، وفجأة أعلن فلمنج اكتشاف البنسللين الذي قضى على الزهري بضربة لازب، وصارت رصاصة إرليخ السحرية ذات قيمة تاريخية لا أكثر..


طبعًا لا أدعو أحدًا للتراخي والتكاسل، لكني أتحدث عن نوع خاص جدًا من التوفيق. هذه السياسة الكسول تحتاج بالطبع إلى الكثير من الحظ. والحظ هو الذي يجعل القوانين تصدر ثم تتغير أو تُلغى قبل أن تجد الفرصة لتخالفها!.. أو قبل أن تعرف أن هناك قانونًا بهذا النص أصلاً. فقط الحظ يجعلك تتجاهل دراسة موضوع معين، فتكتشف في اليوم التالي أنه قد تم إلغاؤه، أو أن التطور قد سبقه. الحظ هو الذي يجعل طلبات الوزارة التي تحمل حشدًا من الطلبات المرهقة تصل للسكرتارية في مقر عملك، بعد انتهاء التاريخ الذي يقول: "قبل موعد أقصاه كذا كذا". نريد مقترحاتكم وتعديلاتكم بشكل عاجل قبل 12 فبراير 2014.. طبعًا يصلك هذا الخطاب في مارس 2015.. أما لو وصلك في فبراير 2014 فإنك لو تأخرت قليلاً لغيرت الوزارة كل مطالبها، ولطلبت أشياء أخرى؛ لأننا بلا ذاكرة، ولا يوجد تراكم من أي نوع. هذه هي فرصة الكسالى والمهملين التي لن يجدوها أبدًا في دولة متقدمة.