قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, November 25, 2009

المجد للكراهية


من الأفضل أن يصمت المرء هذه المرة بعد ما وصلت الأمور إلي هذا الحد، فلو تكلمت قائلاً أي شيء لقلت الشيء الخطأ.. إما أن تلهب النفوس وتزيد النار اشتعالاً وتسكب عليها المزيد من البنزين، أو تدعو للحكمة والتعقل وتذكر الناس بالقومية العربية، وهي دعوة تبدو مائعة رقيعة جدًا أمام كل العنف الذي تعامل به الجزائريون مع انتصارهم

كل الناس يتكلمون وقد فُتحت طاقة القدر لوسائل الإعلام التي وجدت مادة تكفي لملء الصفحات وساعات الإرسال لمدة شهر علي الأقل، فلن أضيف شيئًا جديدًا إلي كل ما قيل ويقال، لكن لا بأس من أن يوجه المرء بعض الاتهامات

الاتهام الأول موجه بالطبع للإعلام الذي سقط سقوطًا ذريعًا في هذا الاختبار منذ اقتربت المباراة. قمة انعدام المسئولية أظهرتها وسائل الإعلام المصرية والجزائرية علي حد سواء، وهكذا تم شحن الجماهير علي الطرفين لحرب حقيقية لا خيارات فيها سوى النصر أو الشهادة، مع ولع سادي مجنون بنقل كل حرف.. لو أطلق مشجع جزائري أحمق سبة في مصر، سرعان ما تسوّد مقالة كاملة عن هذه السبة، ثم يجلس كاتب المقال ويسترخي في مقعده ممسكًا بقدح النسكافيه، ويتابع في استمتاع ردود القراء علي الإنترنت.. القراء الذين احمرت عيونهم وصفّر الدم في آذانهم فلم يعودوا يعون ما يكتبون. شتائم مهينة جدًا انهالت علي رأس مصر ورأس الجزائر في الفترة الأخيرة، فنحن عملاء الصهاينة الذين نتصرف بحقارة، وهم البربر أبناء الفرنسيين الذين لا يعرفون العربية ولا الإسلام ولا آباءهم الحقيقيين، حتي إنني فعلاً لا أعرف بأي معجزة يمكن أن تصفو العلاقات مرة أخرى

هذه عينة مما يكتب عندنا: «استهزأت جريدة أخبار اليوم الجزائرية بالدعوات الصحفية المصرية بضرورة التهدئة، وقالت: لم تتردد بعض الصحف المصرية أمس، في دعوة النظام المصري المتحالف مع الصهاينة جهاراً نهاراً إلي «تقبيل الحذاء الجزائري». عدد من المواقع الجزائرية علي شبكة الإنترنت يبث مقطع فيديو لمئات من الجماهير الجزائرية الذين صنعوا نعشًا من الخشب، ووضعوا عليه علم مصر ثم حملوه علي سيارة نصف نقل وكتبوا علي أحد أوجهه كلمة «الإعلام المصري» ومن الجانب الآخر «سمير زاهر»، فضلاً عن ذلك فقد طافت الجماهير الجزائرية بهذا العلم في شوارع العاصمة الجزائرية فيما يشبه جنازة للإعلام المصري».ـ

بأمانة. هل نشر هذا الخبر مفيد لواحد آخر غير كاتبه ؟.. هل ازداد القارئ حكمة أو علمًا ؟.. فقط ازداد حقدًا وسوف يبحث عن أي جزائري ليفتح رأسه. عشنا في هذا الجو عدة أشهر حتي وقعت الواقعة، والآن حقق الإعلام في البلدين هدفه الأسمى واشتعلت النفوس، فهل هم راضون ؟.. لديكم مادة ممتازة لبيع الصحف وشغل الفضائيات لمدة طويلة.. هنيئًا لكم.. إنها ظاهرة جديدة فعلاً هي أن الإعلام لا يتابع ما يحدث، بل يخلق الظروف المناسبة لحدوثه ثم يتكلم عنه عندما يحدث. كالصحفي الذي يقتل الناس ليجد أخبارًا يملأ بها صفحة الحوادث

نقطة أخرى مهمة هي أن الأخبار التي ترشح ليست دقيقة وليست كاملة، فلماذا تصر الفيفا علي أن اللاعبين الجزائريين هوجموا فعلاً في القاهرة، ولماذا تصر علي فرض عقوبات علي مصر وليس الجزائر؟.. هل الفيفا متواطئة لهذا الحد المهين، أم أن بعض الجماهير غير المسئولة فعلت ذلك فعلاً؟.. لقد رأينا الزجاج خارج الحافلة لكن من أين جاء الجزائريون بالدم علي رءوسهم؟.. هل هو ميركيروكروم كما يزعم البعض في فيس بوك؟.. هل جرحوا أنفسهم؟.. تخيل أن تقوم أنت بفتح رأس عصام الحضري ومتعب وأبي تريكة لمجرد أن تلفق تهمة للجماهير الجزائرية. صعب أن تصدق ذلك. كما أنه من الصعب أن تصدق وجود مؤامرة تحالف فيها الفيفا والجزائر وقناة الجزيرة وأنت الطرف الوحيد الصادق، ولو صدقنا هذا فأين ذهب الإخوة في فيس بوك الذين كانوا يدعون كل بلطجية مصر وسفاحيها لتكريم الفريق الجزائري وإضافة 11 شهيدًا إلي المليون؟.. لو كان الجمهور المصري بريئًا فأنت قد جعلته متهمًا بكل ما فعلته قبل المباراة

الغريب أننا كنا نتندر دومًا علي الحرب التي نشبت عام 1969 بين الهندوراس والسلفادور بسبب تصفيات قارة أمريكا الجنوبية المؤهلة لكأس العالم. كان المرء لا يصدق (هيافة) هؤلاء القوم عندما خسرت هندوراس أمام السلفادور بعد انتصارها، فقام الرئيس الهندوراسي بترحيل المزارعين السلفادوريين من بلاده. وتطورت الأمور بغارة قامت بها طائرات هندوراس على مواقع لجيش السلفادور ..ردت السلفادور بغزو هندوراس.. ودارت حرب قصيرة كلفت البلدين آلاف الأرواح، برغم الكلام عن أخوّة الأمريكيين الجنوبيين والتاريخ والكفاح المشتركين!... مضحك .. أليس كذلك؟... تذكر كذلك أن البلدين كانت بينهما مشكلة حدود قبل المباراة. نحن فعلنا الشيء ذاته تقريبًا مع فارق أنه لا يوجد أي توتر سابق بين البلدين

كل الكلام عن الأخوة والوحدة العربية يسقط مع أول اختبار أو خلاف. وها هي مهزلة استدعاء السفراء تبدأ.. استدعاء للسفير الجزائري.. استدعاء للسفير المصري في الجزائر والسودان.. مصر مختلفة مع الجزائر.. السودان متضايقة من مصر لأنها تتهم الأمن السوداني بالتراخي.. ثم تدخل غزة علي الخط؛ فهي ضد الجزائريين لأنهم سخروا من أهل غزة الذين خرجوا يهتفون لمصر.. هكذا تدب الفرقة بين أربع دول عربية

طريقة (عركات السلخانة) هذه لن تفضي إلي أي شيء. أنت لن تضرب الشعب الجزائري كله فلنكف عن الجعجعة والتهديدات إذن، ولكن يجب أن يعود حقنا عن طريق التعقل.. هناك عريضة تخاطب الفيفا تدور في شبكة الإنترنت للتوقيع عليها، وبرغم أسلوبها الإنجليزي الركيك فإنها تنفيس عن الغضب لا بأس به. هناك قنوات دبلوماسية كثيرة يجب أن تجرب كلها لإعادة حقنا الذي يوشك علي الضياع، مع استخدام حوادث حقيقية موثقة وليس هذا الهراء الذي ينشر في الصحف. مصر بلد مهم قادر علي أن يضغط علي الفيفا. إن جزءًا كبيرًا مما يحدث لنا يعود لأن وزارة الخارجية لا تؤدي عملها كما يجب أو لا تؤديه علي الإطلاق. هل أنا متجن؟.. الكاتب أسامة غريب كان في السلك الدبلوماسي لفترة طويلة، وقد كتب مقالاً قاسيًا في كتابه فائق الإمتاع «مصر ليست أمي..» بمناسبة حادث سرقة مخزن الخمور الخاص بسياسي شهير، والذي يحوي المشروبات التي يقدمها للضيوف الأجانب: «في حديث تليفزيوني لوزير الخارجية السابق أحمد ماهر قال إن العمل الدبلوماسي ليس نزهة ولم يعد حفلات وبروتوكولا وكوكتيلات......إنني أشعر بالأسف عندما أسمع هذا الكلام يتردد كأنه حقيقة، لأن البعثات الدبلوماسية المصرية في أرجاء المعمورة لا تفعل سوى حضور حفلات الشراب ومآدب الطعام، وهذا لا يقتصر علي السفارات والقنصليات بل يمتد ليشمل الجيوش الجرارة من الموظفين في البعثات المصرية في 188 دولة......... آلاف الموظفين يتقاضون مئات ملايين الدولارات من لحم الوطن العاري لا يفعلون سوى ارتياد صالات المزادات وتنمية مواردهم.......لقد وصلت الرسالة كاملة للدبلوماسيين في الخارج.. لا تصدقوا أنكم دبلوماسيون بجد.. السياسة الخارجية لمصر لا علاقة لوزارة الخارجية بها!. كل المطلوب منكم أن تأكلوا وتشربوا في حفلات السمر وتدعوا للسلطان بالنصر، والقيام بالتشهيلات ووضع خبراتكم في الشوبنج تحت الطلب....إن غياب الدبلوماسية المصرية هو أحد أهم الأسباب لاختفاء الدور المصري وهوان مصر علي الجميع. وليسمح لنا السيد أحمد ماهر بأن نختلف معه فنحن لا نرى العمل الدبلوماسي سوى تشريفات وبروتوكولات وثرثرة وشراب ومرح»ـ

هذا كلام شاهد من أهلها وليس كلامي

ما حدث بروفة مخيفة لما يمكن أن يحدث عندما تجن الجماهير، فلا يصغي أحد لصوت العقل أو صوت علماء الدين مثل القرضاوي، ويصغون فقط لشهوة الدم ونداء الثأر، بينما يتحول المطالبون بالتهدئة إلي جبناء وكلاب. هذه بروفة للطريقة التي يمكن أن تحدث بها حرب أهلية ..الحقيقة أننا -العرب - شعب متعصب ضيق الأفق، والإسلام لم يزل كل ما في نفوسنا من بقايا الجاهلية بعد