لا أتابع التلفزيون في رمضان أبدًا، كنوع من الاحتجاج الصامت على سيل المسلسلات المتدفق الرهيب. لكني أرغم في ساعة الإفطار على مشاهدة رامز جلال في برنامجه لأن الأولاد –مع كل مصر– يشاهدونه.
رامز جلال قصة حب عتيدة في حياتي منذ كان يخيف النجوم بالأسود ومطاردات قطاع الطرق، إلخ. وكتبت عن ذلك وأنا في حالة بالغة من الغيظ، قائلاً إن برامج استفزاز الناس وترويعهم بلغت درجة ألعن من كل ما شوهد من قبل، فإذا كانت الحلقة ملفقة فما جدوى ما يفعله؟ فقط يخدعنا بشكل مقزز سخيف، وإن كانت حقيقية فهو يروّع الناس بدرجة مستهترة شبه إجرامية. برامج هذا العام تلعب كلها حول السقوط من طائرة. في أثناء تصوير فيلم (منطقة الشفق -1983) سقطت طائرة هليوكوبتر بطريق الخطأ فأطارت مروحتها عنق بطل الفيلم (فيك مورو) وطفلين كان يحملهما، وهو دليل على أن (الهزار بيقلب بجد) حتى لدى الأمريكان. وفي اعتقادي أنه ستحدث كارثة يومًا ما مع أحد هذه البرامج -ليس هذا العام بالضرورة- من ثم تتوقف نهائيًا.
الأهم أن تكلفة حلقات رامز هذا العام مبالغ فيها جدًا. الإنتاج ضخم لدرجة لا تصدق؛ بين ماكياج لاتكس معقد يجريه له خبراء أجانب ويستغرق حسب قوله أربع ساعات، وحفل صاخب في دبي، وضيف يقيم في فندق فاخر على حساب الإنتاج، وسكاي دايف مع حشد من الكاميرات التي تراقب المشهد، وحشد من التعليقات المتظرفة من رامز الذي يعتقد أن عليه إحداث أكبر قدر من الصخب والضوضاء والغازات كريهة الرائحة ليكون ظريفًا. لماذا دبي؟ لماذا يضع هذا الماكياج المعقد كأنه سيمثل في فيلم كوكب القرود؟.. أعتقد أن شاربًا وشعرًا مستعارين مع نظارة سوداء أشياء كافية جدًا لتغيير شكله. الأمر بذخ للبذخ كما نرى، ثم تقرأ في الصحف فاتورة الإنفاق فتجد أن الحلقة تكلف 660 ألف جنيه، دعك من تذكرة الطائرة وثلاثة أيام في فنادق فاخرة لكل نجم، وإيجار الطائرة 150 ألفًا في الحلقة، أما عن أجور الفنانين فتتراوح من 250 ألف دولار لباريس هيلتون، ثم نصل للفئة الوسطى (100 ألف جنيه) مع محمد هنيدي ولوسي، ثم تأتي فئة الفقراء مثل صافيناز وحمدي الوزير (50 ألف جنيه).
كل هذا جميل ما دامت الشركة تنتج من مالها، وتسدد ما عليها من ضرائب (لو كانت تسدد فعلًا).. وهي بالطبع تحصد من نقود الإعلانات ما يغطي تكاليف البرنامج ويزيد. لو كانت هناك ذرة خسارة لتوقف البرنامج منذ أول عام.
لكنك بين لقطات البرنامج وبين مشاهد التمثيليات ترى الإعلانات.. لا أنكر أن الإعلانات رشيقة ذكية غالبًا، ويضايقني ما يتخللها من مشاهد درامية تضيع الوقت. كالعادة هناك إعلانات الشاي وأجهزة التكييف وإعلان الاسكنشايزر –الذي أعتبره أروع وأذكى إعلانات العام– والبوتاجاز الذي ينفجر في وجوه الناس كلهم حسب كلام موقع (لا تشتر من هنا) على فيس بوك.. وهكذا، وهنا تبدأ إعلانات التسول.. كل جهات مصر تطلب الصدقة من المشاهدين. صدقة من أجل العلاج.. من أجل تمويل مستشفى جديد.. من أجل مشروع غذاء أو مشروع رسالة.. التلفزيون يقف مثل (أم آية) جوار المصرف أو على باب المطعم حاملًا طفلة سقيمة، وينظر لك في توسل وذلة، مرددًا: "كل سنة وانت طيب.. مافيش حاجة للعيلة دي؟".
سوف ترى حشدًا هائلًا من الأطفال الذين فقدوا آباءهم، والأطفال الذين احترقت وجوههم، والآباء المصابين بالسرطان، والممثلات اللاتي يزرن دور الأيتام، والأطفال المصابين بعيب في القلب يمنعهم من اللعب..
السؤال الأول: كل هذا البؤس والفقر. بينما برنامج رامز ينفق الملايين على استفزاز الفنانين. فهل يمكن أن تنال هذه المستشفيات قسطًا من هذه الملايين؟
السؤال الثاني: كيف يعتمد النظام الصحي لبلد كامل على التسول وكرم الكرماء؟ ألا توجد خطة ما؟ مصر العظيمة التي أتخيلها فلاحة رشيقة فارعة، تلبس اليوم ثوبًا ممزقًا وشعرها منكوش مليء بالقمل، وتمد يدها مرددة: عشانا عليك يا رب..
السؤال الثالث: هل هذه التبرعات مراقبة جيدًا فعلاً؟ هل نسمع بعد أعوام أن تبرعاتنا استُغلت لتجديد غرف الإدارة وتركيب أجهزة تكييف؟
التبرع للمستشفيات عمل نبيل فعلًا، وقد كنت من أوائل من تبرعوا لمستشفى 57357 عندما دعوني لسباق الهجن في العريش منذ عشرة أعوام تقريبًا. وفي كل عام لا بد أن أتبرع لأحد هذه العناوين. المشكلة هي أنها تكاثرت كالخلايا السرطانية، ولم تعد تدري أي يد تدس فيها نقودك وسط كل هذه الأيادي. النقطة الثانية هي بذخ الإعلانات وتكلفتها العالية، ويبدو أن ما يجمعونه من تبرعات يقدمون به إعلانات، ما لم تكن هذه الإعلانات ممولة من الدولة أو أن القنوات الفضائية لا تتقاضى ثمن عرضها تطوعًا. هذا هو التفسير الوحيد عندي.
قرأت في جريدة الوطن أن د. شريف أبو النجا، مدير مستشفى سرطان الأطفال 57357 قال إن المستشفى هو الذي ينتج إعلاناته بنفسه، وقال إن الولايات المتحدة الأمريكية تحصل على 355 مليار دولار تبرعات في السنة، تنفق 63% منها على الصحة والبحث العلمي، ويستطيعون الحصول على هذه الأموال من خلال الإعلانات في الصحف وعبر القنوات التليفزيونية. وأوضح أنه إذا صرفت خمسة قروش على الإعلان فإن المستشفى يحصل بعدها على خمسين جنيهًا تبرعات.. هذا معناه حسب كلامه أن القرش يجلب ألف قرش. وقال إن شخصًا تبرع بـ5 ملايين جنيه هو وزملاؤه لأن ابنته تعالجت بالمستشفى وفضل معالجتها فيه بدلًا من السفر للخارج، وتبرعات أخرى من الإمارات وصلت لـ600 مليون جنيه، وغيرها الكثير.
يبدو أن كلام د. شريف مقنع، ولكن ما زلت أشعر بأن الأمور غير طبيعية. برنامج يصرخ فيه الفنانون ويرش رامز رائحة (الفســـ...) في وجوههم وينالون الملايين، ومستشفيات تتسول المال وتنفق معظم ما تحصل عليه في عمل إعلانات تتسول بها المزيد، ودولة تركت مسئوليات العلاج للجهود الذاتية. أعتقد أنني سأشاهد رامز جلال غدًا لأنسى مخاوفي وسط المقالب السخيفة والصراخ ورائحة الـ ......